مذكرات د. صادق عبدالمطلب الموسوي مترجم اللغة الفرنسية لصدام حسين .. شــاهـد ورأى كــل شــيء الحلقة -١٢
كانتْ دورات التدريب العسكري مستمرة بين الحين والآخر للشرطة الكتبة صباحا في ساحة "القشلة" ومن يتخلف عنها يسجن وكان هذا الحضور والمشاركة تسبب لي إحراجا كبيرا في التأخر عن الكلية وخاصة الحصة الأولى سيما وكنت مراقب الصف المسؤول عن غيابات الطلاب.. ولذلك كنت أرتدي الزي العسكري كيفما اتفق وأحضر التدريب بغية التخلص منها سريعا واللحاق بالدرس وبينما كنت في إحدى المرات في الفصيل وإذا بآمر الانضباط العسكري يستعرض الكتيبة وعندما وصل أمامي قال لي اخرج من الصف إلى الساحة أمام زملائك الشرطة!..
وهناك أخذ يستهزئ بملابسي وهندامي العسكري فالسدارة أكبر من رأسي والنطاق يلف ثلاثة أشخاص مثلي والجوارب صفراء اللون فقال لي "أنت هم حاسبيك شرطي علي!". وإذا بالمفوض عبد يهمس في أذنه شيئا انتفض على أثرها العميد عدنان عبد المجيد قائلا "عد للصف يا ولدي" ثم صرخ قائلا: كتيبة انصرف! بعد ذلك أرسل علي العميد إلى مكتبه واعتذر مني وواساني على الكفاح الذي أخوضه من أجل لقمة العيش وحرصي على متابعة الدراسة!
كانوا يقدرون الإنسان العصامي المكافح وإلاّ ما استطعت مواصلة الجمع بين واجبي كشرطي وكطالب كلية على مدى خمس سنوات ولم أنس قط تلك التضحية والمجازفة من قبل زميلي وأخي "موسى" أبي فائز في التعرض لدخول السجن بسبب تغطية غيابي من الوظيفة طيلة وجودي في الكلية! ولم يكتف عند هذا الحد بل كان يرافقني عصرا إلى معمل النسيج في البياع ليخفف عني الوحشة ويواسيني حيث كنت العامل الوحيد الذي يعمل مساء في ذلك المعمل الكبير ووفاء لهذه التضحية لم أتردد لحظة واحدة في القبول بتزويجه شقيقتي الصغرى!! كان حقا برنامجا متعبا, إنني لا أريد هنا المفاخرة بالكفاح المرير الذي خضته وإنما أتمنى أن تكون هذه المسيرة دروسا وعبر لأبنائنا الشباب من الأجيال القادمة! على كل حال فقد مرت أحداث جسيمة خلال هذه السنوات الخمس التي احتسبت لي فيما بعد خدمة عسكرية مجزية لخدمة العلم.
تسارع الأحداث السياسية..
توفي الرئيس عبد السلام عارف إثر حادث احتراق طائرته "الهليكوبتر" في الجو في آذار 966 في "المدَينة" جنوبي العراق قرب البصرة وقيل وقتها كان حادثا مدبرا وخلفه شقيقه الرئيس عبد الرحمن عارف وشكل الحكومة الراحل عبد الرحمن البزاز ثم كانت نكسة 5 حزيران عام 1967.. هذه النكسة خيبت آمال الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج كما كان يقول عبد الناصر وتحولت الآمال العربية إلى انكسار وهزيمة وفقدت ثقتها بإعلامها المضلل وتحول الكيان الصهيوني إلى نسر كاسر إلى يومنا هذا!كنت أعيش وأمثل في اليوم الواحد ثلاث شخصيات ففي الصباح طالب جامعي وفي الظهر شرطي كاتب وبعد الظهر عامل نسيج وكان لكل دور من هذه الأدوار طبيعته ونظامه وظروفه ففي الكلية كنت طالبا مرموقا وصديقا للأساتذة ومعظمهم من الفرنسيين فقد أقمنا علاقة وطيدة أنا وزميلي المرحوم ضياء حليوة مع البرفسور الفرنسي "كريستيان لوشون" الذي أصبح فيما بعد مديرا للمركز الثقافي الفرنسي في بغداد.. ثم في القاهرة..
كنا ندرس اللغة العربية إلى جانب الفرنسية وأتذكر الشاب الدكتور أحمد مدرس اللغة العربية طلب منا ذات مرة أن نكتب له موضوعا في الإنشاء كلاً حسب اختياره وقد اخترت عنوانا أطلقت عليه "القوة المجهولة" وعندما طلب مني الأستاذ قراءة الإنشاء فوجئ بالعنوان وقال مازحا "يا ساتر" مما أثار حفيظة زملائي وحثهم على الانتباه والإصغاء إلى الموضوع! لقد قلت ما الذي يحرك العربة وما الذي يحرك الطائرة والباخرة....إلخ، إنها الطاقة، وبما أن الكون متحرك أيضا فلا بد من طاقة عملاقة تحركه الا وهي الحب سر الوجود وديمومة الحياة فلولا حب الأمومة ما حملت الأم تسعة أشهر وما تحملت أشد الآلام في الولادة وما أعطت من روحها ولبنها إلى وليدها على مدى ثلاثين شهرا! لولا الحب لتوقف النسل وماتت الحياة إنه ثمن الإنجاب, لولا الحب ما حرصت الحيوانات على حماية صغارها من الخطر حتى ولو كلفها ذلك حياتها! من منا يستطيع انتزاع الشبل من أمه؟ من منا يستطيع التقرب من الناقة عندما تلد؟ وهناك آلاف الأمثلة الذي يجمع الحب بين الإنسان وعالم الحيوان!! وهناك حب وتضامن وتعاون بين عالم الحيوان والنبات فالزهرة لا تعطي عبثا من رحيقها إلى النحلة لولا أن تنقل منها حبوب اللقاح إلى زهرة أخرى! والبكتريا لا تزود النباتات البقلية بالأنزيمات التي تحتاجها إن لم تأخذ منها مادة "النشا" والأمثلة كثيرة لا تعد ولا تحصى كيف والحب بل العشق موجود حتى في المادة!! من منا لا يستعمل ملح الطعام! إنها جزيئة مكونة من حبيبين عاشقين هما الكلور والصوديوم والويل لمن يفصلهما فالأول ينتقم ويتحول إلى عنصر سام والثاني يتحول إلى عنصر حارق! واستخلصت في ذلك الموضوع أن الحب إكسير الحياة وسر وجود الكون بأكمله... وصرت أعرف بين زملائي منذ ذلك اليوم بـ"أبو القوة المجهولة".
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
http://algardenia.com/ayamwathekreat/27387-2016-12-12-17-34-15.html
1801 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع