د.منار الشوربجي
مفاجأة من العيار الثقيل حملتها الانتخابات التشريعية الجارية اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي المفاجأة التي سيكون لها أثرها العميق على عملية صنع القرار في واشنطن، على المديين القصير والمتوسط.
فقد مني زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب، إريك كانتور، بهزيمة ساحقة في الانتخابات التمهيدية في دائرته بولاية فرجينيا، بعد أن خدمها في المجلس ثلاثة عشر عاما متصلة، وصعد من خلالها في سلم القيادة حتى وصل لمنصب زعيم الأغلبية، بل وأوشك أن يصبح رئيسا لمجلس النواب في حال تقاعد رئيسه الحالي جون بينر.
والحقيقة أن ما جرى لإريك كانتور، كان هزيمة ساحقة بالمعنى الحرفي للكلمة، فضلا عن كونه مفاجئا. فهو لم يُهزم فقط بفارق 11 نقطة، وإنما هُزم من داخل حزبه، لا من الحزب المنافس.
فكما هو معروف، تجري في أمريكا كل عامين انتخابات تشريعية على كل مقاعد مجلس النواب، وللثلث فقط من مقاعد مجلس الشيوخ. وفي كل عام انتخابي، تجري أولا ما تسمى بالانتخابات التمهيدية، أي تلك التي تدور بين المتنافسين من أبناء الحزب نفسه، إذ من حق أي ديمقراطي أو أي عدد من الديمقراطيين مثلا، أن يترشح أمام النائب الديمقراطي الذي يمثل الدائرة، ومن حق أي عدد من الجمهوريين أن يترشح أمام السناتور الجمهوري الذي يمثل الولاية.
وتجرى الانتخابات بين مرشحي كل حزب، ويصبح الفائز الذي يختاره الناخبون عبر صناديق الاقتراع هو «مرشح الحزب»، الذي سينافس «مرشح الحزب» الثاني في معركة الخريف.
وإريك كانتور، لم ينهزم تلك الهزيمة القاسية من مرشح الحزب الديمقراطي، وإنما انهزم في الانتخابات التمهيدية من منافس جمهوري أكثر يمينية منه، وتدعمه حركة حفل الشاي اليمينية. ورغم أن تلك الحالة ليست الأولى من نوعها، إلا أنها من المرات القليلة التي يهزم فيها زعيم قيادي من داخل حزبه. وكانتور كان قد أنفق أكثر من 5 ملايين دولار على حملته الانتخابية، بينما لم يجمع منافسه أستاذ الجامعة ديف برات، سوى 500 ألف دولار لإنفاقها على حملته.
وهزيمة كانتور كانت مفاجئة حتى للذين يراقبون انتخابات الكونغرس عن كثب، فدائرته دائرة ذات أغلبية جمهورية. وكانتور ليس من النواب الجمهوريين المعتدلين، وإنما ينتمي لتيار اليمين في الحزب، وبالتالي لم يكن من أولئك الأكثر عرضة للاستهداف من جانب حركة حفل الشاي، التي تريد في هيمنتها الحالية على الحزب الجمهوري أن تجره أكثر نحو اليمين عبر طرد الوسطيين.
لكن تبين أن مواقف كانتور اليمينية لم تشفع له، فاستعداده الذي أبداه مؤخرا للتوافق مع أوباما، وخصوصا حول تشريع بخصوص قضية الهجرة، أثار سخط من يقفون على يمين كانتور، فتجمعت أصواتهم لتحتشد مع أصوات الذين يرفضونه لأسباب أخرى، فحدثت الهزيمة.
ومن شأن هزيمة كانتور المدوية أن تفاقم مأزق الحزب الجمهوري المأزوم أصلا، وهي بالفعل ألقت بظلالها فورا على مجلس النواب. فالمؤسسة التشريعية ستظل تعمل بكامل هيئتها الحالية حتى يتسلم الكونغرس الجديد المنتخب أعماله في أول يناير القادم، ومن ثم سيكون على الحزب الجمهوري أن يحسم فورا مسألة تولي مواقع الحزب القيادية في مجلس النواب، بعد أن شغر مبكرا موقع زعيم الأغلبية.
فالخطط تبدلت فجأة أو أرجئت أو تم تغييرها بالكامل، فلم يعد أحد يسمع عن تقاعد رئيس مجلس النواب. وهرولت القيادات التي تتولى مواقع في سلم التراتبية، تتنافس لاحتلال موقع كانتور، ثم إذا بقيادات الحزب تعلن أن المرشح الأساسي لتولي منصب زعيم الأغلبية، هو النائب كيفين مكارثي.
وهي مفاجأة أخرى، لأن الرجل لا يختلف أيديولوجيا عن كانتور، الأمر الذي يعني أن الصراع بين قيادة الحزب الجمهوري وحركة حفل الشاي سيظل قائما، على الأقل في المستقبل المنظور.
ومعنى ذلك أيضا أن الكونغرس الحالي، وحتى يتولى الكونغرس الجديد في يناير القادم، سيكون مشلولا على الأرجح. فالجمهوريون في المجلسين سيظلون يتحسسون مواقع أقدامهم لئلا يخسروا المزيد من المقاعد حتى نوفمبر، وهناك صراع بين فريقين منهم، هذا فضلا عن أن «التوافق» مع أوباما صار سيئ السمعة، ويؤدي للخسارة كما جرى لكانتور.
غير أن التأثيرات على المدى المتوسط لا تقل خطورة على صنع السياسة الأمريكية، فعلى عكس الكثير من التوقعات، من الواضح أن حركة حفل الشاي لا تزال تهيمن على مقدرات الحزب الجمهوري وتجره جرا نحو أقصى اليمين، وهو الأمر الذي أودى بفرص الحزب في الانتخابات الرئاسية مرتين متتاليتين.
فإذا ما ازداد بموجب تلك الانتخابات عدد مقاعد الكونغرس في المجلسين التي يحتلها أعضاء ينتمون لحركة حفل الشاي، فإن الأرجح أن إصدار تشريع ينظم موضوع الهجرة، لن يرى النور حتى انتخابات الرئاسة في عام 2016، وهو نفس العام الانتخابي الذي يحتاج فيه الحزب الجمهوري، على الأقل، لأصوات الأمريكيين من أصل لاتيني.
فالحزب منذ أن صار حزبا طاردا للأقليات والمرأة والشباب، لم يعد قادرا من الناحية الديمغرافية ولا من حيث حسابات المجمع الانتخابي، على الفوز بمنصب الرئاسة. الأخطر من هذا وذاك، أنه سواء بقي الحزب الجمهوري في مقاعد الأغلبية أو انتقل للأقلية، فإن جر الحزب أكثر نحو اليمين ولأكثر من عقدين، يفاقم الاستقطاب السياسي في واشنطن، ويزيد من تطرف السياسة الأمريكية الداخلية والخارجية.
580 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع