عبد الباري عطوان
العدوان الاسرائيلي الوحشي على قطاع غزة يدخل يومه الخامس، ولا يوجد اي مؤشر على ان المقاومة التي تدافع عن القطاع، وتتصدى لهذا العدوان بضرب عمق الاحتلال الاسرائيلي ضعفت او تراخت رغم الطلعات الجوية الاسرائيلية وارتفاع عدد الشهداء الى ما فوق المئة شهيد حتى الآن.
هذه المرة، وعكس العدوانين السابقين (الرصاص المصبوب وعامود السحاب) لم تطلب فصائل المقاومة اي وساطة عربية، او دولية لانهاء الحرب، وخاصة من قبل السلطات المصرية التي تعتبرها طرفا مباشرا في هذا العدوان، وكل ما طلبته هو فتح معبر رفح لنقل الجرحى لعلاجهم في المستشفيات المصرية وعلى نفقة الشعب الفلسطيني ومساعدات اهل الخير، وما اكثرهم ولله الحمد، فهل هذا كثير وهل الجرحى يشكلون خطرا على الامن المصري من اسرتهم في المستشفيات بحيث لم يسمح الا بنقل عشرة منهم فقط؟.
هناك ثلاثة تطورات رئيسية فرضت نفسها على خريطة الاحداث في هذه الحرب:
*الاول: وصول اربعة صواريخ اطلقتها فصائل المقاومة على مطار اللد في تل ابيب للمرة الاولى في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي، الامر الذي ادى الى اطلاق صفارات الانذار وتعطيل حركة الملاحة الجوية لعشر دقائق، وتوجيه حركة “حماس″ التي اطلقتها انذارا لشركات الطيران العالمية بوقف رحلاتها ايثارا للسلامة، ووقع هذا الاختراق مزلزل على خمسة ملايين اسرائيلي حتما، ومصدر رعب لشركات الطيران التي تضع امن ركابها على رأس اولوياتها.
*الثاني: اصابة جنديين اسرائيليين كانا في سيارة جيب عسكرية مدرعة قرب الحدود مع القطاع بصاروخ مضاد للدروع مما يعني ان اي اجتياح بري للقطاع سيواجه بمقاومة شرسة، وربما هذا ما يفسر تردد بنيامين نتنياهو وقادته العسكريين في الاسراع بتنفيذ تهديداتهم في هذا الصدد، تحسبا لخسائر كثيرة، وخوفا من العواقب.
*الثالث: الحالة المعنوية العالية جدا لاهل القطاع، واعراب معظم من التقت بهم الفضائيات الاجنبية قبل العربية في مواجهة هذا العدوان، بينما يحدث العكس في اوساط الاسرائيليين وكشفت استطلاعات رأي اسرائيلية ان نسبة تأييد حزب “ميرتس″ الذي يعارض الحرب والاستيطان تضاعفت في الايام الاربعة الاخيرة، واتفاق معظم المحللين العسكريين والسياسيين على ان نتنياهو سيكون اكبر ضحية لهذه الحرب، ومعارضة نصف الاسرائليين تقريبا لاي حرب برية.
*الرابع: اطلاق صاروخ من جنوب لبنان على منطقة الجليل تضامنا مع قطاع غزة، وهذا قد يكون بداية الغيث، وصافرة انذار وحتى لو لم يكن، فانه ابلغ رسالة تضامن واطيبها الى قلب المقاومين في القطاع.
***
المسؤولون العسكريون الاسرائيليون يتحدثون عن حرب طويلة، ويؤكدون ان لديهم “بنوك اهداف” لن يتوقفوا حتى يقضون عليها، ويتبجح نتنياهو بالقول بان قادة حركة “حماس″ يحتمون بالدروع البشرية، فما هي بنوك الاهداف هذه: مليونا انسان مدني اعزل يشكل الاطفال نسبة ستين في المئة في اكثر مناطق العالم اكتظاظا باللحوم البشرية؟ وهل يريد من قادة “حماس″ ان يقفوا في ساحة الجندي المجهول في قلب غزة ويلوحون للطائرات الاسرائيلية من اجل الالتفاف اليهم وقصفهم بصواريخها؟
نعم اهل غزة تحولوا الى دروعا بشرية لحماية بيوتهم المتهالكة من القصف الاسرائيلي، فاحدى العائلات برجالها واطفالها ونسائها صعدت فعلا الى سطح بيتها في تحد للطائرات الاسرائيلية وعلى امل ان لا تقصف البيت، لكن الطيارين الاسرائيليين ممثلي الحضارة “الانسانية” الغربية لم يرف لهم جفن، ولم توجد اي مشاعر رحمة في قلوبهم، وقصفوا المبنى والعائلة واستشهد جميع افرادها.
لم اسمع شخصيا، وانا اقضي الليل والنهار اسير “الروموت كونترول” متنقلا بين المحطات العربية والاجنبية، فلسطينية او فلسطيني يناشد “الزعماء” العرب لنجدتهم، او يطلب المساعدة المالية او العسكرية منهم او حكوماتهم، لان اهل القطاع اصحاب انفة وكبرياء اولا ويدركون جيدا ان هؤلاء مجرد “نواطير”، ولا يتحركون الا باوامر امريكية ايضا، ومن اجل قتل روح المقاومة والكرامة والتضحية في نفوس المواطنين البسطاء، فعندما تقول لهم الادارة الامريكية ارسلوا المليارات والاسلحة واشعلوا نار الفتنة في سورية يلبون النداء فورا، وعندما توجههم الى العراق يهرولون باموالهم وفضائياتهم دون اي تلكؤ، اما عندما يتعلق الامر بفلسطين والاقصى والمحاصرين في غزة والقدس المحتلة فانهم يديرون وجوههم الى الناحية الاخرى.
القاسم المشترك بين القادة الاسرائيليين والغالبية الساحقة من نظرائهم العرب هو كيفية القضاء على روح المقاومة وقيمها في اسرع وقت ممكن، حتى ينعم الطرفان بالهدوء والسكينة وبما يتيح لهم اكمال مسيرة التطبيع، والتمتع بالثروات التي في حوزتهم واقامة المشاريع الاقتصادية المشتركة، ودون ان يعكر حياتهم “شعارات” المقاومة والكرامة والعزة “المزعجة”، وهي المفردات التي حذفت من قواميس معظمهم منذ زمن طويل.
السيد مشير المصري الناطق باسم حركة المقاومة الاسلامية “حماس″ قال في مقابلة تلفزيونية مساء الخميس ان الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني اليوم هو الصاروخ المبارك الذي وصل الى قلب حيفا.
نتفق مع السيد المصري في هذا الكلام الموزون بالذهب لانه يعبر عن ضمير كل انسان عربي ومسلم في شهر التضحية والفداء، ولكن المفارقة التي نامل ان يكون السيد المصري واعيا لها، ان هذا الصاروخ من طراز320 ـ M الذي يصل مداه الى 160 كليومترا من “صناعة سورية”، وانا انقل هذه المعلومة عن العدد الاخير (ص 44) من مجلة “الايكونوميست” البريطانية التي تصدر في لندن وليس من دمشق!
***
مفارقات هذه الحرب عديدة عرفنا بعضها وسنعرف الكثير في المستقبل القريب بعد انقشاع غبارها، وما يمكن ان نقوله ونختم به ان الانتصار في الحروب مسألة نسبية، فانتصار المقاومة في العراق جبّ الانتصار العسكري الامريكي والغاه وحوله الى هزيمة، ومن هذا المعيار وعلى اساسه نحكم مسبقا بان انتصار المقاومة الفلسطينية في صمودها وبقائها، تماما مثلما فعلت في كل المواجهات السابقة مع الاسرائيليين، وما نزول اربعة ملايين الى الملاجيء وذوي صفارات الانذار في القدس وتل ابيب وحيفا وديمونة الا اجمل معزوفة تطرب اذان المقاومين مطلقي هذه الصواريخ، خاصة عندما تتناغم مع آذان صلاة المغرب ايذانا بالافطار بعد يوم طويل من الصيام، كرد على الطائرات الامريكية الصنع من طراز “اف 16″ التي تلقي بحممها على الاطفال والرضع، والصائمين العابدين.
للمرة الالف نقول انها “حرب ارادات” والفوز فيها لصاحب الارادة الاقوى، وليس السلاح الاقوى، ولعمري ان ارادة اهل قطاع غزة اقوى واصلب من جبال الهملايا، انهم رجال في زمن عزّ فيه الرجال.
488 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع