د.محمد عياش الكبيسي
في سنة 2006 أصدرت مجموعة من أهل السنّة في العراق كتابا كبير الحجم (مساجد في وجه النار) أحصوا فيه بالأسماء والصور العشرات من المساجد التي أحرقت ودمّرت تدميرا كليا أو جزيئا من قبل المليشيات الطائفية المدعومة من قبل الحكومة، هذا إضافة إلى قتل كثير من الأئمة والخطباء واستهداف مصلّي الفجر بالذات!
تكرر المشهد في رمضان وفي أيام العيد هذه حيث قامت طائرات المالكي باستهداف عدد من مساجد الفلوجة وهي التي يسميها العراقيّون مدينة المساجد، ليس لكثرة المساجد فيها فحسب، بل للحضور المميّز لهذه المساجد في حياة الناس بأفراحهم وأتراحهم ومعاناتهم، وقد بلغت المساجد التي استهدفت هذه الأيام فقط ثلاثة وعشرين مسجدا.
كنّا نظن أن هذه الجرائم مردّها همجية المليشيات، وما تعانيه من نقص في مستوياتها الثقافية والتربوية والأخلاقية، حتى شاع عند العراقيين أن هذه المليشيات من أكثر الناس تعاطيا للمخدّرات، وقد سمعت قصيدة شعبية لشاعر من جيش المهدي يعترف بأن جيشه (يكبسل ويسكر) ولكنه يعتذر له بما يقوم به من (بطولات)! حتى قامت الثورة السورية فرأينا (الجيش العربي السوري) يقوم باستهداف المساجد أيضا وقصف المآذن بطريقة مشابهة لما تقوم به تلك المليشيات.
اليوم بدأت إسرائيل تخلع عباءتها (المتحضرة) لتنخرط في (معركة المساجد) حيث تتعمد ومنذ أيام استهداف المساجد في غزة وقتل من فيها، وصار مستوى الخجل العالمي من مشاهد المساجد المدمّرة وأشلاء المصلين المتناثرة يخفّ يوما بعد يوم، أما (الوليّ الفقيه) فيبدو أنه استشرف المستقبل بدقّة وقرّر مبكرا منع بناء المساجد في عاصمته (الإسلامية) حتى لا يتحمّل فيما بعد تكلفة تفجيرها كما يتحملها اليوم أذنابه وحلفاؤه في بغداد ودمشق وتل أبيب.
إن هذه الظاهرة المتخلّفة والشاذّة في السلوك الإنساني تحمل فيما تحمل دلالات خطيرة على هبوط القيم الإنسانيّة، وغياب الرأي العام على المستويين الرسمي والشعبي، وفي المقابل تحمل دلالات أخرى تؤكّد الحضور المسجدي المتصاعد في الحركات التحرريّة والتيّارات المقاومة للظلم والهيمنة الأجنبيّة.
في هذه الأجواء وبسياق منفصل تماما، تعرّضت بعض المساجد في العراق لحملات تفجير ولكن بذرائع مختلفة وجديدة، وهي القضاء على مظاهر (الشرك والوثنيّة) و (الممارسات البدعيّة) التي تحفّ هذه المساجد لوجود قبور ومقامات يظن فيها عامّة الناس أنها لأنبياء أو أولياء! ودخل الناس في أزمة دينية وثقافية وجدل له أول وليس له آخر، بينما اكتفى (الخليفة) بفعلته دون بيان ولا تبيين، مع أنه لا أعلم جهة شرعية في العراق إلا وقد أصدرت بيانا تستنكر فيه هذه الأفعال وتطالب فيه بتوضيح الموقف أو التوقّف والتراجع، لأن الموضوع له تداعياته الخطيرة والتي تتجاوز (الجدل الفقهي)، فالثورة التي يخوضها السنّة اليوم تضمّ في صفوفها أطيافا شتّى ومشارب مختلفة، وفتح مثل هذه الملفات الشائكة لا يشجّع أبدا على وحدة الصف، بل هناك من ذهب أن (دولة الخلافة) إنما استعجلت هذا الأمر لتثبت أن لها وحدها الكلمة الفصل، وأن الآخرين لا يملكون شبرا واحدا من هذه المناطق (المحررة)، وهذا بالفعل ما رددته بعض الأقلام والمواقع الموالية للخلافة.
من جانب آخر ربما كان علماء السنّة يخشون من انخفاض الدافعية لدى الجمهور السنّي لحماية مساجدهم الكبيرة والمعروفة والتي تضم في الغالب قبورا للصحابة كطلحة والزبير وسلمان أو العلماء المتبوعين كأبي حنيفة وأبي يوسف وعبد القادر، مما يسهّل على المالكي ومليشياته أن يستولي عليها أو يدمّرها كما حصل بالفعل لمسجد الصحابيّ الجليل طلحة بن عبيد الله في البصرة وغيره.
تجدر الإشارة هنا أن بناء المساجد على القبور، أو بناء القبور في المساجد ظاهرة منتشرة في العراق والشام ومصر وشمال أفريقيا، أما في تركيا فليس من السهولة أن تجد مسجدا ليس فيه قبر.
إن القراءة الضيقة لبعض النصوص مع إغماض العين عن الواقع ومآلاته وعواقبه سيقود حتما إلى هذا النفق المظلم، وإلا فإن هذه النصوص لم تأت اليوم، وهذه الظاهرة أيضا لم تتشكل اليوم، فلماذا تثار اليوم وبهذه الطريقة المستفزّة؟!
إن ما نراه من بدع كثيرة في (المزارات) و (المراقد) لا ينكره طالب علم منصف، لكن معالجة المنكر بالمنكر باطل بنفسه، وباطل بما يسببه من نتائج خطيرة على الأرض، فالنهي عن بناء القبر والأمر بتسويته بالحد المعروف شرعا (تسنيما أو تسطيحا) وارد بالأدلة الصحيحة، لكنّ إهانة المقبور أيا كان وتفجير قبره بهذه الطريقة غير وارد إطلاقا، وقد ثبت في البخاري وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقوم لجنازة اليهودي احتراما لها ويأمر بالقيام لها، وينهى عن وطئ القبر والمشي عليه والجلوس فوقه لما في ذلك من إهانة للمدفون فكيف بتفجيره؟! والنهي عن الدفن في المساجد، أو إقامة المساجد على القبور وارد كذلك بالأدلة الصحيحة، لكنه ليس هناك دليل قاطع على كيفية معالجة هذا الأمر بعد وقوعه، فينبغي البحث عن الطرق المناسبة لقواعد التشريع وليس وفق الأمزجة والانفعالات النفسيّة، وقد واجه السلف مشكلة قريبة من هذا حيث اضطروا لتوسعة المسجد النبوي، وهذه التوسعة ستضم القبور الثلاثة لرسول الله وصاحبيه، فاكتفى السلف بأخذ الاحتياطات الشرعية لمنع الصلاة إليها أو الطواف بها، ويخطئ من يظن أن هناك خصوصيّة استثنائية لرسول الله في هذا الشأن، بل العكس فمظنّة تعظيم قبره -عليه الصلاة والسلام- أقوى من مظنّتها في بقيّة القبور، وإذا افترضنا أن هناك استثناء لقبره -عليه الصلاة والسلام- فما وجه الاستثناء لصاحبيه -رضي الله تعالى عنهما-؟
إن هدم المساجد وتخريبها منهي عنه بالنص، ووجود الخطأ في المسجد إنما يعالج برفع الخطأ لا بتخريب المسجد، كما فعل رسول الله بتحطيم الأوثان وتنظيف الكعبة منها، فلقد كان يكفي هؤلاء إزالة القبور بالطريقة الهادئة مع الحفاظ على بيوت الله وما فيها من مصاحف وأثاث وفرش، وهذه أموال متقوّمة وموقوفة لا يملك أحد إتلافها بلا إذن ولا دليل.
إن تفجير المساجد بهذه الطريقة من شأنه أن يقلل هيبة المساجد في قلوب الناس، ويجرئهم عليها بأدنى ذريعة كوجود الزخارف والنقوش المنهي عنها بروايات كثيرة، ووجود المنابر المخالفة للسنّة والتي تزيد على ثلاث درجات! وهناك من يحرّم بناء المآذن والمحاريب لأنها من البدع التي لم يأذن بها الشرع! هذا فضلا عن خضوع كثير من هذه المساجد للحكومات التي لا تحكم بما أنزل الله، ويتردد من على منابرها تمجيد الظالمين والكافرين والتحريض على الموحّدين والمجاهدين!!
325 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع