د.عبدالرزاق محمد جعفر
تكمن المواهب عند بعض الأشخاص ولا يمكن ان تظهر وتنمو ما لم يتوفر لها المناخ الملائم, ومثلها مثل المعادن الثمينة المدفونة في باطن الأرض,..لا يمكن الأستفادة منها مالم تبذل جهوداً في اخراجها وتنقيتها وتعدينها وصقلها حتى تكون ذات قيمة عالية, كذلك الموهبة,لا يمكن ان تكون مثمرة ما لم تبذل جهوداً خاصة في صقلها وتنميتها حتى تصبح منبع خير للمجتمع او قل للبشرية بأسرها!
كم من طبيب موهوب ابتكر دواءاً انقذ به ملايين البشرمن هلاك محتم , وكم من موهوب ابتكروطورمخترعات اسهمت في تقدم العالم وازدهاه,.. وكم من كاتب خلد أسمه بأفكاره النيرة التي خدمت السلام العالمي وخففت من ويلات الحروب,.. وان الأمثلة حول ذلك لا حصر لها , ولذا اترك الأمرللقارئ يستذكر منها ما يشاء ويترحم على الأشخاص الذين وهبهم الله الفكرالنيرالمفعم بالخيرالذي أسعدوا به البشرية فخلدهم التاريخ ليومنا هذا .
من المؤلم حقاً ان نجهض مواهب بعض الناس وهي ما زالت في دورالأستحالة , اي في دور( النمو), اونغتالها وهي ما زالت ضريرة او قل لم ترى النور لسبب او آخر
ان من اخطر تلك الأسباب ان يكون الموهوب تحت رحمة حسود او لئيم يتلذذ في تحطيم اية موهبة يافعة بشتى الوسائل ويستهين بها, ولهذا يكون مثل هذا الأنسان قد اسهم لـحد ما في تأخير المجتمع عن ركب الحضارة الحديثة التي نـسعى الى السير في دربها, بعد ان كنا الطليعة,.. يوم ان وصلت حضارتنا الى كافة ارجاء المعمورة بفضل ما انجبته امتنا من الموهوبين والعباقرة في مجالات العلوم المختلفة كافة, وما زال الكثير منهم يذكرون بالخير في معظم جامعات العالم المختلفة, في حين ان الكثير من ابناء شعبنا لا يعرف من هو الكًندي ومن هو ابن سينا وابن حيان
منذ فجر التاريخ القديم والأمة العربية في جهاد وكفاح في سبيل اعادة المجد لحضارتها التي انتقلت الى العوالم الأخرى عن طريق التجارة, فقد ادرك اجدادنا ان السعادة لن تتم الا بتنمية القيم الأدبية واذكاء العناصر المادية, ولهذا تأسست الحلقات والمدارس والمجالس تحت رعاية رجال العلم والحكمة والفلسفة,.. وقد قامت على الأرض العربية جامعات ضمت الكثير من طلاب العلم الموهوبين بلغت ارقى اطوارها يوم كان الظلام مخيماً على اوربا
ففي فجر الأسلام ظهرت المساجد التي كانت بمثابة مدارس وجامعات يتحاور فيها العلماء بين اوقات الصلاة,..وقد يلقي البعض منهم المحاضرات في النحو واللغة وشتى انواع العلوم المختلفة,.. وبعد ان قامت الدولة في بعض الأقطار العربية, قامت مدارس مثل الأزهرفي القاهرة , والنظامية في بغداد, .. وغيرها في قرطبة واشبيلية ودمشق وبيت المقدس
قال احد الفلاسفة عن مهمة هذه المدارس ,.. انها خـلق للمعارف , وليس مجرد التحصيل وحفظ المعلومات, من دون التحري عن الحقيقة وتطويرما توصلنا اليه
اقتبست الجامعات الأوربية معظم المعلومات التي كانت تدرس في ذلك الحين,.. وقد تأسست مدرسة " ســالـرنو", في صقلية لتدريس الطب العربي لفترة طويلة
وفي بداية القرن العشرين تأسست جامعات كثيرة في الوطن العربي,.. الا انها لم تصل الى الهدف الأساسي من انشائها,.. الا وهو البحث عن الحقيقة والأستفادة منها بما يعود على الأمة والأنسانية بالخير والسعادة
ان معظم الجامعات في الوطن العربي غير متبلورة الشخصية, ولم تكون لنفسها اي منهج ثابت تسيرعليه لأسباب كثيرة خارجة عن نطاق الموضوع الذي نحن بصدده ولذا سأتطرق الى الأساليب والتدابير التي مازالت غير ثابتة في انتقاء العناصرالصالحة من الشبان الذين اتموا تحصيلهم الثانوي وتوزيعهم على الجامعات والمعاهد
في معظم جامعات العالم يعيرون اهتماما كبيراً بطلبة المرحلة الثانوية, تحت اشراف اساتذة متمكنين من تدريس اختصاصاتهم ,.. كما ان الخريجين لهم الحق لأختيار الكلية او المعهد المرغوب به بغض النظرعن المجموع في الأمتحان العام ( البكلوريا), اذا ما اجتاز امتحان القبول الخاص بالكلية,..وان الكلية تـقـبل العدد المقنن وفق نتائج امتحان القبول من المتقدمين لتلك الكلية, اي انها تختار الأجدر منهم ان فاق عدد المتقدمين على العدد الذي تقرره تلك الكلية,.. فمثلاً لو تقدم مآت الطلبة للدخول الى كلية الطب,.. فأنهم لا يقبلون الا اذا اجتازوا امتحان القبول المقرر لكلية الطب
ان غياب هذه القاعدة في جامعات الأقطار العربية سببت فشل العديد من الطلبة الذين نالوا معدلات عالية في الأمتحان العام (البكلوريا),.. فكم من طلبتنا الموهوبين في الرياضيات دخلوا كلية الطب وكم من النوابغ في علم الأحياء والكيمياء دخلوا كلية الهندسة المدنية, والذين يكرهون الكيمياء دخلوا قسم الكيمياء او قسم الهندسة الكيمياوية
لدي امثلة لا حصر لها حصلت لموهوبين في الرياضيات اجبروا على الدخول الى كلية الطب لأن معدل درجاته يؤهله لدخول الطب اضافة الى رغبة عائلته في حصول ابنهم على لقب دكتور بعد تخرجه
ولا ابالغ اذا ما قلت ان نسبة ضئيلة من طلبتنا تمكنوا من دراسة ما رغبوا من علوم او مارسوا المهنة التي حلموا بها,.. ولو تحريت مع ذويهم عن السبب لقالوا لك : الحظ
كم من طالب مولع بالطيران, اجبرعلى دراسة الطب؟ وكم منهم دخل كلية الهندسة وهو موهوب منذ الصغـر بالغناء والموسيقى اوالرسم اوالتمثيل ؟.. الا ان العائلة والأعراف الأجتماعية المحافظة كانت وما زالت حجر العثرة امام المواهب في كافة اقطارنا العربية مما اجبر الآلاف منهم الدخول الى معاهد او كليات لا تمت بصلة الى رغباتهم الذاتية, فقد قادتهم معدلات الأمتحان العام الى عكس رغباتهم
وبعد حين يبدل الحب تـارً,. والعصافير تهجرالأوكار,...ودياركانت قديما ديارً, وترانا كما نراها قفارً,. فأسـتيقظت المواهب الكامنة وبدأت تتوهـج من جديد وتكسرالقيود التي كبلتها وتنطلق بكل عنف نحو تحقيق ذاتـها, وخير مثال على ذلك في الساحة العربية هو الأديب يوسـف ادريــس(طبيب), وابراهيم ناجي (طبيب) وهو الشاعرالذي غنت له مطربة العرب الخالدة أم كلثوم قصيدة الأطلال
يافـؤادي لا تســل اين الهـوى
كان صـرحا مـن خـيـا لي فـهـوى
كذلك الممثل القدير يحي الفخراني (طبيب), والممثل العبقري(استاذ الكيمياء) دريد لحام وعلي محمود طه (مهندس), وسـعدون جابر (ليسانس علوم انسانية), وسـميرغانم دبلوم (كلية الزراعة), وسيد عبدالكريم (دكتوراه في الكيمياء)
وبالرغم من معرفة معظم اولياء الأمور بالحقاق اعلاه, الا انهم حالما يلاحظون نتيجة البكلوريا, حتى يقرروا مكان دراسة ابنهم او بنتهمً ,.. بغض النظر عن طموحات ابنائهم او مواهبهم التي يعرفونها بشكل جيد,.. كما ان هناك عوائل تفضل ان يدخل ابنها الى اي كلية مهما كانت بعيدة عن رغباته ولا توفر له مهنة مرموقة,.. فأن تلك العائلة تفضلها على اي معهد حتى ولو كان ابنهم مولع بأختصاصه او ان الخريج منه سيكسب الذهب
وما من احد لم يسمع عن عوائل ادخلت ابنائها الى كليات خاصة وصرفت مبالغ جمة بالرغم من عوزها المادي حتى لا توصم بعارابنها الدارس في معهد ما
لا اريد ان اطيل بسرد الأمثلة , فما من قارئ لم يسمع بالعديد من تلك التصرفات الكابحة لمواهب ابنائهم,.. ولذا اتوجه بندائي الى كل عائلة, بترك حرية الأختيار للطالب وان تتحسس مواهبه وتنميها, لأن دراسة اي موضوع وفق الرغبة الذاتية هو الأساس في نجاح الطالب وتفوقه ,..فالكثير من الزملاء دخلوا المدارس الريفية, ثم ادى الأمتحان الموسوم بـ (الأمتحن الخارجي),.. ونال شهادة البكالوريا بتفوق, وحصل على بعثة دراسية في خارج القطر, ليعود بعد خين حاملاً لتخصص نادر, ليخدم فيه وطنه
ويقينناً ان الموهوب اذا ما حقق طموحاته وتدرج في دراسته فلا بد من ان يأتي بنتيجة تسـر عائلته ويسمو بسمعة الوطن , فلا تغتالوا مواهب ابنائكم والسلام عليكم.
ومـن يتـهيب صـعود الجبال يـعـش أبـد الـدهـر بين الحـفر
823 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع