د. منار الشوربجي
الطريقة التي غاب بها نجم الكوميديا الأميركي روبين ويليامز تدق أجراس الخطر وتفتح العيون على مرض الاكتئاب. تأثرت شخصياً بوفاة ويليامز، فالرجل كان صاحب موهبة فذة أمتعت جمهوره بفنه. فهو كان يشعرك بالصدق وكأنه لا يمثل.
وكانت لديه قدرة مذهلة على أن يضحكك ويبكيك معا. لكن الرجل صاحب كل هذه الملكات الذي حقق نجاحا مشهودا وصار صاحب شهرة عالمية كان يعاني في صمت من مرض خطير هو مرض الاكتئاب.
ومرض الاكتئاب مرض قد يصاب به أي شخص، فقير أو ثرى، ناجح أو فاشل. وهو مرض أصاب الكثير من المشاهير والعظماء، ورجال السياسة والعلم والفن.
فهو على سبيل المثال لا الحصر، أصاب تشرشل وتيدي روزفلت ولينكولن والأميرة ديانا من أهل السياسة، وأصاب مارك توين من الأدباء وأصاب أنجلينا جولي وروبين وليامز من أهل الفن.
ومن الأسماء السابقة يبدو أن ذلك المرض يصيب الأذكياء.
ولم لا، فلماذا يكتئب من لا يفهم ما يجري حوله أصلاً؟!
ومرض الاكتئاب من الأمراض التي تكبل صاحبها، كما شاهدت بنفسي مع بعض الأصدقاء، وقد يؤدي لموته انتحارا كما حدث مع وليامز. لكن مرض الاكتئاب، كباقي الأمراض النفسية، لاتزال مجتمعاتنا العربية لا تعرف كيف تعامل المبتلى به، مما يعرض حياته للخطر ويضر بالمجتمع الذي يخسر طاقات وخبرات مهمة.
فوفقا لآخر الإحصاءات، فإن المصابين بمرض الاكتئاب حول العالم بالملايين، وهو ما يعني أن هناك الكثيرين جدا في العالم العربي على اتساعه، مصابون بالضرورة بهذا المرض ويعانون في صمت خوفا من قسوة المجتمع. فالكثير من الأسر في بلداننا تخشى أن يعرف الجيران أو حتى أفراد العائلة، أن أحد أبنائها يعالج من مرض الاكتئاب خوفا عليه.
فهم يتوقعون أن يعامله الجميع باعتباره مختلاً عقلياً، الأمر الذي سيسبب الضيق للابن المريض مما قد يعني أن تسوء حالته الصحية.
لكن دعنا، عزيزي القارئ، من الجيران والأسرة الممتدة، ولنركز على الأسرة الصغيرة نفسها. ولنواجه أنفسنا بصراحة؛ هل تعرف تلك الأسرة فعلاً كيف تعتني بابنها المريض بالاكتئاب وتوفر له العناية والدعم الكافيين لمساعدته على التغلب على المرض؟ الإجابة في أغلب الأحيان بالنفي.
فالغالبية العظمى من أسرنا، حتى من المتعلمين تعليما عاليا، يخلطون بين المزاج السيئ ومرض الاكتئاب، وبالتالي يعاملون مريض الاكتئاب باعتباره يعاني من مجرد سوء المزاج. وقد سمعت بنفسي مرات عديدة من يقول لصديقتي المريضة: »يا ستي كله حيبقى تمام والله.. قومي بس انت فرفشي كده«. ورأيت بنفسي وقع هذا الكلام على المريضة ومدى إيلامه لها، فأخوها الأكبر الذي قال الكلام يحبها بالتأكيد، ولكن ما قاله لها كان بمثابة »تعجيز« بالنسبة لها.
فهو لا يدرك أنها مريضة وأنها تعالج، مثلها تماما مثل مريض الكبد أو القلب. فمريض الكبد الذي يتألم لا يمكن أن تقول له »قوم فرفش« ليزول الألم، وكذلك مريض الاكتئاب الذي يشعر بألم شديد، لا تعالجه »الفرفشة« وإنما الدواء وجلسات العلاج في بعض الحالات. ومريض الاكتئاب قد يجد تعاطفا من بعض الأصدقاء، وربما يكون محظوظا فيجد منهم صديقا أو اثنين قادرين على فهم الكيفية التي يدعمونه بها.
وربما يجد مريضا آخر من أصدقائه قسوة، فينسحب تماما ويعاني في صمت.
والمجتمع عموما يعامل مريض الاكتئاب ليس كمريض وإنما كمشكلة، فهو إن كان طالبا في المدرسة فهو الطالب »المشكلة« الذي يتغيب كثيرا ولا يحصل الدروس كما ينبغي.. وهو الطالب المنطوي الذي لا يريد أن يكلم أحدا.
ثم إنه يبدو سليم البنية لا يشكو من أي مرض عضوي، ويبدو فقط أنه يختلق الأعذار ليغيب عن المدرسة. والبعض الآخر في المجتمع يعتبر أن الاكتئاب »اختيار« وليس مرضا.
فلأن كلمة »مكتئب« صار يستخدمها القاصي والداني دون أن يعني بالفعل أنه مريض بالاكتئاب، فإن من يقول إنه مريض بالاكتئاب فعلاً يكون قد »اختار« الاكتئاب. والمجتمع بالغ القسوة على مريض الاكتئاب إذا ما قرر العمل، فالمرض النفسي ليس من الأمراض المغطاة بالتأمين الصحي في أغلب بلداننا العربية، الأمر الذي يعني أن المريض يتكفل بالتكلفة الكاملة لعلاجه ودوائه.
وعلى عكس مريض القلب أو الكلى، مثلاً، الذي يستطيع ببساطة أن يطلب إجازة رسمية إذا ساءت حالته، فإن مريض الاكتئاب يتحمل وهو في شدة مرضه أن يبدو في قمة لياقته، لئلا يشعر زملاؤه ورؤساؤه بمرضه، وهو ما يمثل عبئا ثقيلا.
أعرف شخصيا مريضا صرح لزملائه في العمل بحقيقة مرضه، فاستغله أحدهم ضده عند حدوث أول خلاف بينهما. فهو كتب في الشكوى الرسمية »نظرا لأن زميلي يعاني من مرض نفسي...«. وفي حالة أخرى، صرح مريض يعمل في شركة خاصة بمرضه وطلب إجازة، فتعاطف رئيسه أول مرة، ولكنه طالبه في المرة التالية بالاستقالة بدلاً من الإقالة.
لقد آن الأوان لأن ينتبه المجتمع المدني العربي لأهمية دوره في التوعية بمرض الاكتئاب، وطبيعته وكيفية رعاية المريض به، ودعمه من جانب الأسرة والمجتمع. فهناك جمعيات تشكلت للتوعية مثلاً بمرض سرطان الثدي ورعاية المريضات ودعمهن، وجمعيات لرعاية مرضى الجذام وسرطان الأطفال، وذلك توجه محمود للغاية. لكن لا يوجد اهتمام يذكر بمرضى الاكتئاب، الذين يحيط بهم صمت اجتماعي مدوٍّ.. فلنكسر جدار الصمت الذي يفرضه المجتمع على المرض النفسي عموما.
541 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع