د.امال قرامى
استأثر حزب النهضة فى انتخابات 2011، باهتمام المعارضة وعامّة الناس على حد سواء، واحتلّ مركز الصدارة من حيث استقصاء أخبار القياديين، وتحرّكاتهم، وخطاباتهم، وصورهم, فكان نجم الموسم الانتخابى، وموضوع «هوس» جماعىّ: الخصم اللدود فى نظر البعض، والمخلّص الذى تعلّق عليه الآمال فى نظر البعض الآخر. وكان هو الرابح الأكبر حين فاجأ الجميع بالنتائج التى حقّقها.
أمّا اليوم فقد اختلف الوضع إذ تزحزح حزب النهضة عن مكانه، وفقد بريقه، ولم يعد بمثل ذلك «الطهر والنقاء». تغيّرت صورته بعد امتلاكه السلطة، وتصدّره حكم البلاد، ولم يعد قادرا على تقديم الوعود، ولا عرض برامج إنقاذ الاقتصاد.
وبرز من نافسه فى تشكيل الرأى العامّ، وفى تغيير موازين القوى السياسية، وهكذا صار الحديث عن حزب النهضة، وعن حزب نداء تونس باعتبارهما المحرّكين الرئيسيين للسياسات المستقبلية.
وعلى مرّ الشهور بات حزب النهضة غير قادر على استعمال الأساليب القديمة لاستمالة الناس، والتأثير فيهم عاطفيا. فما يميّز الحملة الانتخابية لسنة 2014 أنّها جاءت فى مرحلة تفاقم فيها التهميش، وتعقّد فيها الوضع الاقتصادى، والوضع الأمنى, وبرزت فيها أزمة الثقة فى السياسيين، وبلغ السخط الشعبى أوجه. فما عاد بإمكان الأحزاب ادّعاء امتلاكها برنامج إنقاذ، وسياسات من شأنها أن تحسّن مستوى المعيشة ماديا ومعنويا. ومن هنا «لجم» الواقع المعيش أفواه السياسيين فحال دون تماديهم فى إنتاج خطاب واعد يحرّك العواطف، وقلّص مساحة تحرّكهم، وجعل فاعليتهم محدودة جدّا.
ومن العوامل التى كبحت أيضا جماح السياسيين، وأثّرت فى أدائهم تطوّر فهوم التونسيين للسياسة، وانكشاف عورات السياسيين، و«سقوط» بعضهم أخلاقيا، و... فلم يعد السياسى قادرا على التحرّك فى بيئة «التصحّر» السياسى، والجهل، والتعامل مع من يعتبرهم السذّج وما عاد بإمكان السياسى أيضا الاحتجاج والمراوغة واللعب على «الذقون».
•••
وحين يتغيّر المشهد، وتتحوّل طبيعة العلاقة بين جمهور الناخبين والسياسيين يغدو النشاط السياسى باهتا، مفتقرا إلى الأفكار المثيرة، والبرامج المعبّرة عن حاجات الناس، والخطاب السياسى المقنع، مفرغا من الحيوية المنتظرة فى مثل هذه المواعيد الانتخابية, غاية ما فى الأمر أحزاب تُحدث «الضجيج» لا ببرامجها الطريفة، وسياساتها الواضحة، وممارساتها الديمقراطية بل بالحرب بين المركز والهامش، وصراعها على المواقع، ونهم القياديين وأشباههم...تسلّط فمواجهة فتهديد بالاستقالة الجماعية وهنا تذوب الفوارق، وتقترب المسافات، وتكثر أوجه الشبه بين الأحزاب الإسلامية والأحزاب الحداثية. فالكلّ خطّط ودبّر وعيّن رؤساء القوائم بطريقة لا تعبّر عن استشارات فعلية أو «شورى» حقيقية، والكلّ عيّن النساء على مضض ولسان حالهم: هذا ما جنته الثورة، والدستور علينا، والكلّ تهافت على رجال الأعمال، والشخصيات «المستقلة» التى تستطيع التسويق لصورة الحزب، والكلّ ضحّى بأعزّ المقرّبين لديه فى سبيل تحقيق النصر، والكلّ أصابته اللوثة فما عادت تعنيه الأخلاق... والكلّ تنكّر لقيم الثورة، وتناسى زلاته، وتجاهل ما تورّط فيه، وكأنّ الحملة الانتخابية الجديدة تجبّ ما سبق، والكلّ بدأ يهتم بمظهره على حساب المضمون، ويعدّ العدّة للظهور فى وسائل الإعلام: تخفيض للوزن، وتجديد للبدلات، ورابطات العنق، والفساتين، واستبدال للنظارات بالعدسات اللاصقة، وتغيير للون الشعر.
•••
وفى بلاد قضى فيها المستبّد، ومن معه على كلّ إمكانات العمل السياسى، وجعل السياسة حكرا على أقليّة، وقتل فيها مشاعر الوطنيّة، وكرّس فيها ثقافة التسليك والابتذال، ونبذ العمل وبذل الجهد، والتطوّع، وركّز فيها منظومة الفساد، والترهيب... يسعى سياسيونا إلى إقناعنا بأنّه لا مجال لرفع سقف المطالب والطموحات، ولا مجال للانتقاد اللاذع «فعلى قدر الكساء نمدّ أرجلنا».
ثمّ إنّه لا يمكن أن ننتظر من سياسيينا أن يكونوا نوابغ: إنّهم أبناء هذا البلد، ولم ينزلوا من المرّيخ، قد تشرّبوا آليات تحريك الواقع السياسى حتى النخاع، وما عرفوا غير استراتيجيات النظام السابق، وما فقهوا إلاّ لونا واحدا من التدبير السياسى. فلا غرابة أن ينطبق على أحزابنا مثل «لتسمع بالمعيدى خير من أن تراه».
بيد أنّ من يروّج لمبدأ الرضوخ للواقع عبر دخلنة هذه الأفكار له أهداف منها : التعامل مع الشأن السياسى من منطلق إيمانى مفاده «الرضا بالمكتوب» والتسليم، وترسيخ استكانة التونسيين وقبولهم بالموجود، فضلا عن الرغبة فى القضاء على الفكر النقدى والفكر الحرّ، واحتكار «أصحاب الخبرة من التجمعيين» ومن والاهم، وتتلمذ على أيديهم، العمل السياسى. وبناء على هذا التوجّه صار تدخّل المجتمع المدنىّ فى هذه المرحلة، ضروريّا.
464 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع