د. علي محمد فخرو
عندما كتبت في الأسبوع الماضي عن نواقص ومطبات ممارسة الديموقراطية في الغرب لم أقصد، بالطبع، الانضمام الى جوقة المحذرين، بلؤم وتلفيق وكذب على النفس، من انتقال مجتمعات العرب الى الديموقراطية لايمانهم الراسخ الانتهازي بعدم ملائمة الديموقراطية لمزاج العرب كبشر ولثقافتهم وأوضاعهم الاجتماعية المليئة بالتخلف. وهذا التحذير بالطبع يصب في خدمة المستبدين والفاسدين.
المطلوب كان هو العكس تماماً. المطلوب هو أن تحاول أمة العرب عيش تجربة جديدة مماثلة لما أنجزته منذ خمسة عشر قرناً بالنسبة لحملها مشعل رسالة دينية جديدة تمثلت في دين الاسلام. لقد كانت هناك ديانات عديدة، وكان بالامكان تبني احداها وبالتالي تجنب الصراعات والعرق والدموع التي تصاحب تبني الجديد. لكن أمة العرب رأت ما اعتبرته في زمانها نواقص في هذا الدين أو ذاك فتطلعت الى ما اعتقدت أنه سيكون أفضل، فوجدته في الرسالة السماوية الجديدة المعروضة عليها من قبل رسول نبي جديد. فكان أن حملت تلك المسؤولية التاريخية وضحت من أجل ما آمنت بأنه جزء من مسؤوليتها تجاه العالم، فكان ذلك التاريخ المبهر لمن كان العالم يومئذ لا يرى فيهم أكثر من بدو جهلة فقراء أجلاف متصارعين.
اليوم، في ضوء وألق ذلك التاريخ، يحق لنا أن ننظر الى ديموقراطيات الآخرين بنفس تلك العين الناقدة والروح المتطلعة الى ما تعتقد أنه سيكون الأفضل. ومن البداية يجب التأكيد بأنه لا في الماضي كانت التجربة تحقيراً للديانات الأخرى، ولا في المستقبل ستكون تحقيراً لديموقراطيات الآخرين.
ديموقراطية الآخرين، مثل الديانات الأخرى التي نظر اليها العرب منذ خمسة عشر قرناً، فيها الكثير مما هو حسن ومبهر ومطلوب، لكنها لا يمكن أن تكون نهاية المطاف، فالانسانية ستبقى الى نهاية وجود عالمها تتطلع نحو الأسمى والأنقى، تماماً مثلما أمرت كل الديانات السماوية وغير السماوية ذلك. ونحن، اذ ننتقي التمعن في الديموقراطية (أو الديموقراطيات؟) الغربية فلأنها أفضل الموجود في عالمنا اليوم. ولكن كونها الأفضل لا يعني أنها هي الأقصى الممكن وأنها، كما ادعى البعض، هي نهاية التاريخ، أي السقف الأعلى الممكن لمسيرة الديموقراطية.
اذن، ونحن هنا لا نثرثر ولا نضحك على النفس، فمن حق العرب وواجبهم أنهم مثلما انتقلوا من جاهلية الشرك والممارسات الدينية البدائية البليدة الى ما اعتبروه ديناً ملائماً لهم وللانسانية، فان المطلوب، وهم ينتقلون من استبداد الماضي وممارسات الحكم البدائية البليدة المليئة بالنواقص الى ما يعتبرونه نظام حكم أفضل وأسمى، فان المطلوب هو أن يحاولوا القفز فوق ما هو موجود الى ما هو أحسن مستوى وأفضل تنظيماً مما هو موجود.
هل هذا صعب؟، نعم، ولكنه غير مستحيل ويستحق المحاولة على الأقل. تدفعنا الى ذلك أحداث وممارسات وحقائق كثيرة في عصرنا الحالي. فالديموقراطية في العديد من المجتمعات أضحت ممارستها مثل توالد وتربية الأسماك في الأحواض المائية الاصطناعية. انها أسماك بلا طعم منعش ولا مذاق حسن.
والديموقراطية في واقع ممارساتها الحالية عبر العالم كله يستحوذ عليها، بالسرقة والتشويه والتضليل، كل أنواع القراصنة من سياسيين وأصحاب ثروة ودكتاتوريين متخفين وراء ألف قناع.
وباسم دمقرطة الثقافة هبطت الآداب والفنون وبرامج الاعلام الى مستويات متدنية في محتواها وقيمها وعمقها الفكري وذوقها، لتنتج بدورها أناساً غير صالحين لحمل مسؤوليات المجتمع الديموقراطي.
والديموقراطية السياسية أصبحت في ضعف متزايد في عالم أضحت فيه الفروقات بين مؤسسات المجتمع المدني، وبخاصة الأحزاب السياسية، فروقات غير فكرية أو مبدأية، وانما فروقات في مقدار ونجاعة البهلوانية التي تمارس في لعبة الوعود والأكاذيب والتلاعب بعواطف الجماهير من أجل تسلم الحكم والبقاء فيه.
وبسبب ذلك أصبح النظام الديموقراطي لا يجتذب للعمل في الحياة السياسية الا أنواعاً من البشر تتصف غالبيتهم بالبذاءة والسلوكيات اللامسؤولة، ما أفسح المجال لأن يصبح كل من يملك نفوذ ومؤسسات المال رجل دولة.
كل ذلك أدى الى خلق بيئة ثقافية اجتماعية تزيد من سقم الديموقراطية، وذلك بعد أن تضاءلت التعددية الفكرية السياسية بين الأحزاب فأسقمت السياسة، وبعد أن تقلصت الطبقة الوسطى في العدد والمستوى المعيشي والحيوية فأسقمت الاجتماع، وبعد أن أصبح الاعلام حبيس الاعلان وشعبية الثقافة المسطحة وثرثرة المطبلين الانتهازيين فأسقم الرأي العام. قد يبدو أن الكلام في موضوع الديموقراطية في أزمنة التراجع المفجع التي نعيشها هو كلام في الفاضي، غير أن الحقيقة التي ستدوم هي أن مستقبل الوطن العربي هو أهم وأكبر وأسمى من مماحكات أنظمة التسلط والفساد العابرة ومن عبثيات داعش والنصرة وأخواتهما الطارئة.
741 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع