رغم أن مناظرة السياسة الخارجية بين أوباما ورومنى حظيت باهتمام كبير حول العالم، إلا أن الأخطر مما جاء فى المناظرة هو ردود الأفعال بشأنها. فكثيرة هى المقالات التى كتبت داخل أميركا وخارجها فى تحليل المناظرة وما تعنيه بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية إذا ما فاز أوباما أو فاز رومنى. إلا أن أكثر ما يلفت انتباهك فى كل ردود الأفعال هو أنها مرت مرور الكرام على لغة الخطاب المخيفة التى استخدمها المرشحان.
فأنت إذا أمضيت بعض الوقت لتتابع ما كتب وقيل بشأن المناظرة ومعناها بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية ، ستجد أن الأغلبية منها ركزت على ما قاله المرشحان عن هذه الدولة أو تلك، أو عن هذه المنطقة أو تلك من العالم.
وفى بعض الأحيان، ركز الكتاب على الفارق بين ما قاله رومنى فى هذه المناظرة وما قاله طوال الحملة. لكن ما يثير الانزعاج حقا هو ذلك الغياب لردود الأفعال تجاه لغة الخطاب نفسها التى استخدمها المرشحان بخصوص السياسة الخارجية. ويبدو أن تلك اللغة من فرط استخدامها أميركيا لم تعد تستوقف الكثيرين، ولا صارت تغرى الإعلاميين وكتاب الرأى للتعليق عليها.
خذ عندك مثلا ذلك الاحتفاء المفزع من جانب المرشحَين باستخدام تكنولوجيا الطائرات بدون طيار. فأوباما المسؤول عن التوسع المذهل فى استخدام تلك الوسيلة لم يُسأل فى المناظرة عنها لأن موقفه منها "معروفا" كما قال الإعلامى بوب شيفر الذى أدار تلك المناظرة.
أما رومنى الذى سئل عن موقفه، فقال أن التقارير تقول أن تلك الطائرات "تُستخدم لتوجيه ضربات، وأنا أؤيد ذلك تماما، وأشعر أن الرئيس كان على حق عندما زاد من استخدام تلك التكنولوجيا. وأعتقد أن علينا أن نواصل استخدامها من أجل ملاحقة الناس الذين يمثلون تهديدا لبلادنا ولحلفائنا... إلا أننى أرى أن علينا أن نفعل ما هو أكثر من ملاحقة هؤلاء وقتلهم".
والحقيقة أن التكنولوجيا التى يتحدث عنها رومنى وتوسع فى استخدامها أوباما مسؤولة عن قتل آلاف المدنيين الأبرياء فى أكثر من بقعة حول العالم. وهى فى تقديرى تكنولوجيا ذات طابع عنصرى واضح.
فهى تعتبر أن أرواح جنود الامبراطورية الأميركية أغلى بكثير من أرواح شعوب الأرض الأخرى، ومن ثم لابد من حماية جنود الامبراطورية من دخول المعارك بقدر الإمكان ومن ثم يتم اللجوء لطائرات بدون طيار تقصف من الجو من أجل اصطياد شخص أو أكثر من المشتبه بهم دون أية معركة أصلا حتى ولو كان ذلك القصف الجوى يعنى التضحية بأرواح العشرات أو المئات من المدنيين الأبرياء فى الضربة الواحدة.
وكما ترى، عزيزى القارئ، فإن اللغة نفسها التى يستخدمها المرشحان تعكس عنفا بلا حدود وتتحدث عن "القتل" وكأنه يجرى على شاشة التليفزيون دون أى اعتبار للأبرياء الذين يسوقهم حظهم العاثر بالصدفة لموقع "الضربة"، أو حتى أولئك الذين يشتبه فيهم عن طريق الخطأ ويقتلون دون التحقق من تورطهم فى أية جريمة، وهو ما حدث ويحدث طوال الوقت.
خذ عندك مثلا اللغة التى استخدمها أوباما عند الحديث عن الإرهاب. فهو استخدم تعبيرات مثل "نفعل كل ما فى وسعنا لنقتلهم ونخرجهم من الصورة" أو مثل "أهلكنا" قياداتهم.
وانظر أيضا إلى استخدام رومنى تعبيرات مثل "اقتلاع هؤلاء". وتلك لغة بالغة الخطورة لا يمكن لأى مهتم بحقوق الإنسان أن يقبلها. فالمتهم مهما كانت بشاعة جريمته يظل، حتى وفق الدستور الأميركى نفسه، برئ حتى تثبت إدانته.
والسكوت على مثل هذا الخطاب معناه الموافقة الضمنية على أن ينصب من سيتولى موقع الرئاسة فى أميركا نفسه حكما وجلادا لمن يتقرر أن يتم "إهلاكه" من البشر أو "قتله" أو "اقتلاعه" فى أى مكان بالعالم.
وأنت نادرا ما تجد اليوم من السياسيين فى أميركا من يتحدث عن القبض على المشتبه بهم وتقديمهم لمحاكمات عادلة وانما تسمع حديثا عن قتل واغتيالات بالجملة. وهو ما صار الواقع الفعلى فى عهد بوش بل وأوباما من بعده.
وما لا يقل خطورة عن كل ما تقدم، هو ذلك الفخر الذى تحدث به أوباما عن إقدامه على اقتلاع من يريد من على أرض باكستان دون استئذانها! فأوباما هاجم رومنى فى مناظرة السياسة الخارجية الأخيرة لأنه فى انتخابات 2008 قال انه لابد من استئذان باكستان قبل قتل بن لادن داخل أراضيها.
وذكّر أوباما الناخبين بأنه فى ذلك العام الانتخابى تعهد بأن يطلق النار فورا قائلا لرومنى "لو أننى استأذنت باكستان (قبل قتله) لما قتلناه". بعبارة أخرى، فإن الامبراطورية تعلن للعالم كله بمنتهى الصراحة أنها لن تتورع فى إرسال قواتها داخل أية دولة لاستهداف أي شخص تعتبره خطرا عليها دون استئذان تلك الدولة أصلا! ولا عزاء لمفهوم السيادة.
أكثر ما يلفت انتباهك فى كل ذلك أن تلك اللغة التى تتسم بالشراسة تجاه العالم دولا وشعوب، يقابلها لغة أخرى بالغة الرقة والعذوبة إذا تعلق الأمر بأرواح الأميركيين. فأوباما الذى يستخدم الطائرات بدون طيار التى تروع المدنيين الآمنين يتحدث عن ضرورة حماية أمن الأميركيين وأرواحهم بكل جدية واحترام.
فهو قال أن أول ما فعله حين علم بضرب القنصلية الأميركية فى ليبيا كان "تأمين الأميركيين الذين كانوا لا يزالون معرضين للخطر". وحياة الأميركيين بليبيا كانت بالفعل تستحق الحماية، لأنهم مدنيين أبرياء تعرضوا للقتل والترويع والدمار، لكن ماذا عن ضحايا الطائرات بدون طيار، الذين هم أيضا مدنيون أبرياء يتعرضون للقتل والترويع والدمار؟
933 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع