للمرة الثالثة على مدى ثلاث ليال متتالية أرى، وأنا أمرّ بأحد الشوارع المطلة على دجلة بغداد وأعبر أحد الجسور، دوريات أمنية تلاحق مجموعات من الشباب افترشوا الأرض ليتناولوا المشروبات الكحولية في ما يبدو.
مقدماً أقول انني - وإن كنت أناصر حق الناس في أن يأكلوا ويشربوا ويلبسوا ما يشاؤون وعلى هواهم باعتبار ان هذا من الحريات الشخصية المحض التي يتعين على الدولة كفالتها ورعايتها التزاماً باحكام الدستور وبشرعة حقوق الانسان والمعاهدات والاتفاقات الدولية ذات العلاقة، - لا أدعو الى ترك الشباب يتناولون المشروبات الكحولية في الطرقات والأماكن العامة المفتوحة. لكن ما الذي يجعل هؤلاء الشباب يُقدمون على هذا؟
انه السلطات الأمنية التي كلما خطر في بال أحد من كبار المسؤولين عنها، لسبب ما، صالت صولة جديدة على النوادي الاجتماعية فتُغلقها، بما فيها المجازة رسمياً، وتُعامل روادها معاملة فيها الكثير من عدم اللياقة ومن خرق القانون.
وانه الفراغ الكبير في حياة الشباب، فلا نوادي رياضية واجتماعية وثقافية تنتشر في الأحياء والضواحي يمضي فيها الشباب أوقات الفراغ ويقتلون الملل والسأم، ولا مكتبات عامة تجتذبهم اليها فترفع من مستواهم الثقافي، ولا صالات سينما ومسرح وموسيقى وغناء ترقّي أذواقهم وتُشغلهم عن حياة الشارع.
ماذا يفعل الشباب الذين يعانون من البطالة وانغلاق آفاق المستقبل؟
ثمة من يتجه الى المشروبات الكحولية وآخرون الى المخدرات، بل لا يتردد البعض عن الالتحاق بعصابات الجريمة المنظمة ، وحتى الإرهاب. وبين هذه الفئات الثلاث فان متناولي المشروبات الكحولية هم الأقل ضرراً أو خطراً، إن كان ثمة ضرر أو خطر في ذلك.
لكن السلطات الأمنية بتنظيمها الحملات المتواترة ضد النوادي الاجتماعية والحانات هي التي تفتح الأبواب أمام هذا الضرر أو الخطر لكي يخرج الى الشارع والأماكن العامة كالحدائق.
الوظيفة الرئيسة لأجهزة الأمن تتمثل في حفظ الأمن والنظام، وما يُهدد الأمن والنظام في بلادنا أكثر من غيره هو جماعات الإرهاب وعصابات الجريمة المنظمة، ومن المفترض أن تكرّس أجهزة الأمن جلّ اهتمامها ونشاطها لدحر هذه الجماعات والعصابات التي لم تزل تتصرف كما لو انها في مأمن من الخطر لانصراف أجهزة الأمن الى ملاحقة الشباب الذين تصرّ هي على طردهم من النوادي الاجتماعية والحانات.
المعركة مع متناولي المشروبات الكحولية - إن كانت الأجهزة الامنية وسواها قد وضعتها على أجندة معاركها وحروبها – هي معركة خاسرة، والاستمرار فيها عبث لا طائل فيه. دول كبيرة وحكومات شديدة البأس حاولت في عهود وأزمان مختلفة وفشلت، ولم تزل تحاول وتفشل (اسألوا إيران والسعودية)، ودولتنا ليس في إمكانها، ولو بعد قرن من الآن، اجتراح معجزة فشلت في تحقيقها الجارتان الكبيرتان.
التفتوا الى الإرهاب والى الجريمة المنظمة ، واتركوا الشباب المسالم يخفف من معاناته ويستمتع بوقته في سلام وأمان وراء الجدران.
873 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع