من المعلوم بأنه لا وجود لمعايير ثابتة أو لحلول حتمية و نهائية، فكل نموذج يشكل تجربة حية تبقی قيد الدرس والبناء والإستكمال، علی سبيل التعديل والتحسين. فما حصل في السنوات الأخيرة من تقلبات وإنهيارات إقتصادية بل و حتی سياسية شكل مدعاة لإعادة النظر في منظومة التعاريف المتعلقة بالإقتصاد بشكل خاص و الحرية والعدالة و المساواة علی وجه العموم، بعيداً عن لاهوت التحرير الذي يجعلنا نقفز فوق واقع الإجتماع والعالم المعاش و بعيداً عن التعامل مع الديمقراطية كمدافع و مناضل يستخدم المفاهيم التقليدية المستهلكة.
إن ما نطرحه هنا من الأفكار مستقاة من خطاب للمستشار الألماني السابق، هلموت شميت، القاه بتاريخ 2012.09.22 بمناسبة تكريمه لحصوله علی جائزة ويستفاليا الألمانية للسلام، فهو العقل الإقتصادي الأول في بلده و صاحب نظريات مستقبلية في السياسة العالمية و أحد رواد الوحدة الأوروبية المسالمة.
كما نعلم بأن الأفكار ليست إيقونات للعبادة والتقديس ولا هي قيم مفارقة تعلو علی الظرف والشرط، بل هي عوالم من العلاقات ننشئها علی أرض الصراع وفي بوتقة المواجهة، بعقلية المداولة والمفاوضة، لإنتاج صياغات ومواقف جديدة، عبر المساهمة في إنتاج المعلومة والمعرفة.
لو أخذنا الإتحاد الأوروبي كمثال لما نطرحه، لرأينا بأنه يعمل منذ أكثر من نصف قرن علی تنمية تشكيلته. ففي الثامن عشر من نيسان عام 1951 إجتمعت ست دول أوروبية، هي فرنسا و ألمانيا و بلجيكا و لوكسمبورغ وهولندا و إيطاليا، لتضع حجر الأساس في بناء الاتحاد الأوروبي و بعد أربعين عاماً من تأسيس هذا الإتحاد وصل عدد أعضاءه في إجتماع بهولندا الی أثنتي عشر دولة أوروبية. وفي السابع من من شباط عام 1992 تم التوقيع علی معاهدة ماستريخت والتي تم بمقتضاها تم تجميع مختلف الهيئات الأوروبية ضمن إطار واحد هو الاتحاد الأوروبي، الذي أصبح فيما بعد التسمية الرسمية للمجموعة. واليوم وبعد إنضمام كل من رومانيا و بلغاريا عام 2007 يبلغ عدد أعضاءه 27 دولة متخذاً العاصمة البلجيكية بروكسل مقراً دائماً لأمانته العامة والمفوضية الأوروبية، ومدينة ستراسبورغ الفرنسية مقراً لبرلمانه الأوروبي.
بالرغم من كل هذا لم يكن بإمكان الإتحاد لا عن طريق معاهدة ماستريخت و لا بالمحاولات الغير ناجحة لوضع دستور أوروبي دائم و لا بواسطة معاهدات لشبونة أن يخطو خطوات مؤسساتية مؤثرة نحو الأمام. نحن نعرف بأن للمفوضية في بروكسل 20000 منتسبين، يعملون بجدية في إدارتها، لكنهم علی ما يبدو منشغلين بوظائف ثانوية.
والجهة الوحيدة التي يمكن أن يقال بأنها تعمل بشكل مُرضٍ هو البنك المركزي الأوروبي، ولكن الی متی يمكن لهذه الجهة أن يرضي الجميع؟
لذا نستطيع أن نتحدث اليوم بشكل واضح و صريح عن إمكانية فشل هذا الإتحاد ويمكن أن يعود سبب هذا الفشل الی الألمان أنفسهم، لأن دولة المانيا الأتحادية برهنت للجميع بأنها أكبر قوة إقتصادية في القارة الأوربية، وهذا موضوع يثير الإستغراب حتی لدی الكثير من الألمان قبل الآخرين. و المانيا الإتحادية تمارس هذا الدور و تعمل علی إيقاظ هذا الشعور لدی البلدان الأخری.
لذا نری بأن المحكمة الإتحادية الألمانية العليا و البنك المركزي الألماني و المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يتعاملون بتعالٍ و حضورٍ و تطابقٍ وقصدٍ و سيادةٍ و كأنهم هم المركز والثقل الأكبر في أوروبا. أما الرأي العام الألماني فهو وللأسف مصبوغ بصبغة قومية- أنانية، يحمل في طياته فلسفة "أنا قبل كل شيء و لا أحد غيري". وإذا أخذنا فترة أطول بعين الإعتبار فإننا نستنتج بأن هناك إمكانية رجوع الدول الأوروبية الی اللعبة القديمة، أي لعبة المركز والأطراف، من غير الوعي بأنهم يتحركون نحو الحافة الخارجية للسياسة العالمية والاقتصاد العالمي. فدولتان من دول الأعضاء، تمتلكان مثل كوريا الشمالية القوة النووية.
والسلاح الذرّي اليوم هو القدرة و الشارة، و هو أيضاً أداة يمكن إستخدامها للتهديد و في الحرب. أما إذا نظرنا اليه من الناحية الإقتصادية والإجتماعية، فأن السلاح الذرّي مضيعة للإنتاجية. ومن الناحية الأخری يمكن إعتبار عدم السماح لدولة المانيا الإتحادية بأن تمتلك أسطول الغواصات المجهزة بالأسلحة النووية إحدی أهم الأسباب التي أدت الی الإزدهار النسبي في هذا البلد. الألمان فهموا أخيراً بأنهم أوروبيين و لا يجوز لهم الرجوع الی اللعبة القديمة، أي لعبة ميزان القوی في أوروبا، بل عليهم أيّاً كانت النوايا والاستراتيجيات العمل بجدية في إستخلاص النتائج الإيجابية اللازمة من تجارب القرون الأربعة الماضية، وهي كما يلي:
أولاً: تجارب التاريخ علّمت الأمم الأوروبية و بالأخص قياداتها، بأن نتائج كل المحاولات السابقة في بناء قوة مركزية أحادي القطب في أوربا كانت فاشلة، لذا لا يمكن أن يكون نصيب المحاولات المستقبلية في هذا الأمر غير الفشل. والمساعي الرامية من قبل الأتحاد الأوروبي لتعزيز قدرته في مجالات السياسة الخارجية، الإقتصادية ، المالية والأمنية عن طريق عقد معاهدات و سن قوانين تبقی دون فرصة كبيرة.
ثانياً: علی الألمان أن يتذكروا في هذه الحالة كل من ونستون تشرشل، شارل ديغول، جورج مارشال، هنري ترومان و جورج بوش الأب لتسديد ما عليهم، لأن هؤلاء كانوا رجال دولة و قاموا بمساعدة الألمان في ظروفهم الصعبة. وهذا يعني أن علی الألمان أن يدعموا الإتحاد الأوروبي بجدية و تكون مبادراتهم في سبيله هي الأولی. فالمادة 23، فقرة1 من الدستور الألماني تبسط الطريق لهذا الأمر، لأنها تسمح بالتعمق و الإعتصام بحبل الإندماج. بالطبع يحتاج تبنّي هذا المشروع الی أموال طائلة وعلی الألمان البدء به، وإلا كيف تمكنت دولة المانيا الإتحادية بأن تكون المستفيد الرئيسي من قضية الإندماج الأوروبي؟
ثالثاً: بغض النظر عن الدروس المستخلصة من تجارب القرون الماضية، يجب أن لا يكون الألمان سبب ولادة الجمود والتراجع أو إضمحلال مشروع الإتحاد الأوروبي. فالدول في القارات الأخری تنتظر بفارغ الصبر كي يتصرف هذا الإتحاد أخيراً بصوت وحدوي وهذا يحتاج الی الإرادة الكاملة للعمل المشترك مع الفرنسيين و الإرادة في العمل مع البولنديين بجدية أكثر. و الإرادة في التعاون مع دول الأخری الجوار تعتبر من الضروريات. فالألمان تغيّروا من حيث علاقاتهم بالعالم وتعلموا من ماضيهم. فهم يستطيعون إثبات ذلك بعد دراسة العواقب عن كثب و بإمعان بعيداً عن الاطروحات الطوباوية.
ومن البديهي بأن القارة القديمة تعيش اليوم صراع فكري، كما تشهد المناقشات الخصبة والسجالات الصاخبة حول القضايا الأوروبية المطروحة و الأزمات الإقتصادية في بعض بلدانها، لكن كل ذلك لا ينقص من الحقيقة بإن تلك المجتمعات قامت بتغيير عدتها الفكرية و مهماتها الوجودية وعملت بشكل مثابر علی إختلافاتها و حولّت فكرة الإتحاد الأوروبي الی واقع تداولي معاش، أثّر في الحياة اليومية لجميع الناس و تجسّد ذلك بشكل خاص في العملة الموحدة، التي تسمی "اليورو".
وختاماً نقول: لا مكان من بعد اليوم لعقليات و حكومات تقوم بالحملة التبشيرية من أجل المركزية، فدكتاتورية المركز تلوث الفضاء الفكري و تبتلع المجتمع المتفتح الساعي الی تثبيت التعددية و توسيع مدارات الفدرالية و تشجيع الاستثمار في العقل البشري و التخلص من الوصاية النبوية عن كل ما يمكن أن يضيف شيئا جديد.
الدكتور سامان سوراني
857 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع