بعد ترحيب فاتر بادرها الرجل بوجه متنمر.. لماذا تعملين مع الحكومة؟
كانت صديقتي المرحة التي تفيض منها البهجة دائما قد اتصلت بي وهي غارقة في الإحباط حتى أنها لم تنتبه إلى أنغام العيد. اتصالها بي جاء عقب انتهائها من مقابلة عمل مع لجنة اختيار صارمة قذفت بها في مناقشات جدلية لولبية. ثم خُتِم اللقاء بعشرين دقيقة من الاستفزاز.
وبرغم أن الإعلام يدق آذاننا كل يوم بالكرة الأرضية التي لحمتها العولمة والاتصالات والعالم الذي اتصلت همومه. وبات فقر "أم أيمن" حارسة العقار يُقلق مضجع المنافس الرئاسي الأميركي الثري "رومني" فإن الرجل المتنمر الذي كان أبيض الشعر وجامد الملامح أصر على الفصل القاطع بين الباحثين وبين الحكومات. واعتدل في مقعده يحاضرها قائلا "نحن فئة غيرهم". لم يكشف عن تأثره بمنطقها حين أجابته: وما فائدة الباحثين إن لم يطوروا حياة البشر ويقوموا أخطاء الحكام؟
استرجعت حواري معها بينما طالعتني الصحف بخبر إصدار حكم بالحبس ست سنوات على علماء زلازل إيطاليين سبع حدث أن اشتركوا معا في لجنة خاصة توجهت لمعاينة منطقة "لاكويلا" وسط إيطاليا قبيل وقوع الزلزال. وكان سبب الرحلة العلمية وجود نشاطات زلزالية سجلت هناك قبل 6 أشهر من ذلك الحين. ورأت اللجنة أن لا خطر يحدق بالسكان، لكن الزلزال عاندهم وضرب المنطقة في السادس من أبريل من عام 2009 بقوة 6.3 درجة على مقياس ريختر فدمر المباني السكنية والأثرية خاصة في مركز مدينة "لاكويلا" الأثري مخلفا 308 قتلى و29 ألف مشرد باتوا بلا مأوى.
كانت الحكومة هي التي استعانت بعلماء الزلازل، ثم هي أيضاً من قاضتهم حتى السجن. أعادت المحاكمة النقاش مرة أخرى إلى السطح طارحة السؤال الجوهري: هل ينفصل الباحثون في جزر معزولة أم يقدموا ثمار أبحاثهم إلى الحكومات والممارسين والإعلام وإلى متخذي القرار؟ الرجل جامد الملامح كان من مدرسة ترى حتمية الفصل مشجعا العلماء على البقاء في صناديق أنيقة عالية على قمم الجبال ينظرون للواقع ويشخصونه ثم يسجلون ملاحظاتهم لينشروها في مجلات علمية لا تصل ليد العاملين بالحكومات ولا إلى أيدي البرلمانيين أو الممارسين. على أن صديقتي الأستاذة بإحدى الجامعات الأوروبية كانت من المشجعين للخلط بين الباحثين وبين العاملين بالحكومة. وكانت هي من تؤكد أن جهود الباحثين غيرت نوع الزيوت التي تدار بها سياراتنا، كما اختلفت ملامح الإعلانات وفق آراء علماء الاتصال. كلما تطور التعليم بالمدارس وصارت تعلم الأطفال كلمات وليست حروفا وفقا لنتائج أبحاث التعليم. كذلك خلع "جورج بوش" الابن رابطة العنق حين أكد له علماء النفس أنها تزيد الحواجز مع الجمهور ولا تضيف إليه احتراما أو هيبة.
عزل الباحثين في مواقعهم العالية لا يعني إلا ممارسات تعتمد على التجربة. والتجارب دائما ما تحتمل النجاح والفشل. وما نحتاج إليه هو تقليص حجم الفشل، فلا الفقراء قادرون على تحمل مزيد من السياسات الفاشلة ولا بالبيئة موقع جديد لمزيد من التلوث. ولا في قلوب الأوطان مكان لتحمل مهاترات ومغامرات حكام لا يكترثون إلا بمكانتهم ومواقعهم وخزائن أموالهم. صديقتي وأنا معها نرى أن العلماء يجب أن يبحثوا من أجلنا. من أجل أبنائنا وأجيالنا القادمة. من أجل حكم أكثر عدلا ومسؤولين يعملون وفق الحقائق والمعلومات وممارسين يستندون إلى الحقائق والمعلومات وليس للأهواء والحسابات، وإن أخطأ العلماء مرة فأخطاؤهم لا تضارع أخطاء من أشعلوا الحروب وسرقوا الثروات وأقاموا عليها القصور. الرجل ذو الشعر الأبيض الذي رأس اللجنة العلمية التي تقابل الباحثين المرشحين للمنصب الجديد قال لصديقتي: أرأيت لقد سجن علماء إيطاليا بسبب أبحاثهم الخاطئة؟
لكنه لم يرد عليها حين أجابته بأن علماء الجيولوجيا في العالم أجمعوا على استحالة التنبؤ الكامل بالزلازل، وأن الطبيعة ما زالت تخبئ عنا الكثير من أسرارها، ثم قبل أن تخرج قالت له إن حكام الدول العربية تجاهلوا الباحثين وتحذيراتهم من ثورات الشعوب ومن الكيل الذي طفح والظلم الذي طغى والفساد الذي طفا، لكنهم أغلقوا على العلماء الغرف؛ فثارت بعض الشعوب وانكسرت الأبواب.
أجابته وخرجت؛ فاستقبلتها نسمة ناعمة ورائحة ياسمين وطريق اتسعت جوانبه ومر به كل البشر.
874 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع