زيد الحلي
نادية الدليمي
قبل سنوات مضت ، زرتُ صديقاً تولى مسؤولية الدار الوطنية للنشر والاعلان والتوزيع بوزارة الاعلام ، التي غُيبت بعد نيسان 2003 وأراد هذا الصديق تكريمي بالمطبوعات التي تتعامل بها الدار ، فاصطحبني بسيارته الى شارع المطار ،
وتوقف بي قرب ساحة "عباس بن فرناس" فدلف الى احدى الطرق الترابية ، حيث دخلنا ابنية (جملونات) تضم اطنان من الكتب والمطبوعات بمختلف الموضوعات .. فطلب الى موظف وحيد ، كان هناك ، بجمع ( كمية ) من تلك المطبوعات ورزمها ووضعها في صندوق سيارته الفارهة !!
وقبل ان اعبر عن استغرابي من وجود تلك الكميات من المطبوعات التي توسدت التراب ، طلب مني مضيفي ، ان نؤجل الحديث عن ذلك ، ثم وجه سائقه ، ان يتجه الى مخازن " القطن الطبي " قرب كلية الآداب السابقة في الوزيرية ، بمحاذاة المرور السريع ببغداد.. وبعد مدة ، كنا هناك، فشهدتُ ما يشبه مقبرة مخازن " عباس بن فرناس " حيث آلاف الكتب المبعثرة لعناوين شتى .. وطلب ان تُرزم كميات منها ايضاً، ووضعها في سيارته ... كان حجم هذه الرزمة وسابقتها ، تمثل نواة لمكتبة ..!
وفي العودة الى دائرته ، سألت عن "طوفان" تلك الكتب ، فقال:
انها مطبوعات ، قامت وزارة الاعلام ، بطبعها ، مجاملة،لكتاب ثانويين ومغمورين ولفعاليات تخص مناسبات مختلفة ، وهي لا تجد من يقرأها،لخواء محتوياتها ، وسطحية مضمونها ...!
ولم يعتريني الخجل ابداً ، حين رجوت صديقي ان يعذرني عن تقبل هديته ، ومنذ ذلك الحين ، عاهدتً نفسي بعدم ، اشغال وقتي بقراءة كتب مطبوعة لمناسبات حكومية .. ومثلما ان لكل قاعدة استثناء ، فقد نبهني احد الزملاء الى شاعرة ، شابة ، طبعت لها وزارة الثقافة ديوانها الاول لمناسبة احتفالية " بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013" ..
وبعد تردد ، اطلعتُ في احدى المساءات على الديوان ، فأستوقفني عنوانه ( حبر على قلق ) وهو عنوان جديد في رؤيته ومعطياته ، واناقة طبعه ، وصغر حجمه ( 64 ) من القطع الصغير .. واسم شاعرته " نادية الدليمي " لم يثرني ، فهو جديد على عيني وأذني ..
إدراك شعري عميق
وبدأت اقرأ..
بداية ، اؤكد ان ، الادراك الشعري كلما كان عميقاً ، كان تفسيره أصعب ، وكلما تعمّق الإحساس بالأشياء ، كان التحليل أقرب الى المنطق .. لقد وجدتُ في سطور نادية نافذة شعرية واعدة ، وفي شعرها ، السهل الممتنع شجن وجداني واسع المدى، وهذا في ما اظن ، سيجعل من اسمها ركيزة في مستقبل خارطة الشاعرات العراقيات ، اذا ما واصلت العطاء بسياقها الذي لمسته في ديوانها الاول ... انها من جيل الشباب ، تبنت لغة مختلفة ولديها طموح ثقافي يقوم بالأساس على الانحياز للصورة الشعرية وجمالياتها ، والشباب، كما يقولون ، هو ربيع العمر ، لأنه يمثل الفترة الزمنية الزاهية في حياة الإنسان ، إنه مرحلة القوة والفتوة... وهو ايضاً مخفف أحزان الحياة، ومانح القدرة على تحمل أكدارها ومتاعبها..
اثنتان وعشرون قصيدة ، في نفس قصير ، لكنه مفعم بالوجد والشجن والاحساس ... انني امام شعر استوقفني ، وجعلني اتأمل عمق الحزن الجميل الذي بسطته الشاعرة على ضوع صدق انساني ، عميق في معانيه .. ..
وهي تقول في مدخل ديوانها :
( قال : احبك كيفما تكوني
قلت : سأكون كما تحب ..
انتهزني غيمة لم ترتكب الهطول
لأفيض حبا على أخاديد ظمئك
فقد انتظرتك
قاب عمرين
او اقصى
من التلهف ..
كل الاشياء من نسل الـ ( لا شيء)
كل الاشخاص من نسل الـ ( لا احد )
كل الجهات تمضي الى الـ (لا مكان )
وحدك
تحمل كل معاني الاشياء
حتى غيابك
كائن له حضوره ..
**********
ابتعدت الشاعرة عن التكرار والإعادة والتطويل وهذا ما أوصلها الى غاية من ما تريد من بعث صوتها الشعري ، ورسمت ألوانها الشعرية متعددة الرؤى بفرشاة ملآى بكلمات وجيزة، وهي احدى سمات الشاعر الذي يحترم القارئ ويثق به ويطمئن الى ذكائه.
وفي قصيدتها ( انين مكتوم ) قالت :
ما زلتُ ارتادهُ
مقهى عينيك المكتظ بحكايا نساء الخدور
حيث رائحة النشوة
تفوح من اباريق نزواتك
انتبذ ركنا كان لإحداهن
وارمقني فيك
ما زلت جالسة على رصيف قلبك
ارتدي اللامُبالاة
اضع قناعاً واقياً للخيبة
اغلف اشتعالي بالبرود
ابدد دخان صبري
بتنهدات خفية
( انين مكتوم )
وانتظر دوري
على ناصية التشظي
في مسافة بين ارتباكي وارتباكك
احاول الإ تزان
فمازال في العمر مدخر للندم
ومازال في القلب
باب للقلق ..
***********
في هذه القصيدة ، ومعظم قصائدها ، شكّل التشاؤم والشجن ، ما يشبه حالة من اليأس لديها ، لكنه كان يأساً مكبوتا ، وهنا اقول لشاعرتنا الواعدة ، التي لمستُ في سطورها ، حزن شفيف ، غلّف ابداعها الشعري ، أن التفاؤل أهم معاول هدم الحزن، وهو النسيم الذي تستنشقه روح الحياة، وان تعكر صفو التفاؤل بالحزن، يشلّ نبضات القوة في هيكل الحياة... فليكن شعارك : لا للحزن واهلاً ببهجة الحياة .. فالشعر ، صدى الحياة ، وموسيقى نشاطها الحيوي ، وتلوين حركتها بألوان الزمان والمكان .. والحلم بالحب ، بمعانيه الطلقة السمحاء الصافية ، يسوّغ الوجود ويبني المستقبل ويرسمُ الأحلام، وينفض صدأ الحزن والقلق والحيرة والضياع المعتم .. فحين تقبل الحياة بكل بهجتها يغار الحزن ويغتصب الابتسامة من الشفاه ..!
وفي قصيدة اخرى ، أسمتها " أرق ".. تقول :
تذرعني الليالي
تتعثر بجثة حلم مسفوح
تنفثني محمولة على عاتق الدخان
من رئتي سيجارة
مُطفأة الروح
والأرق
قاطع طريق
يعقد حاجبيه
ليرهب النعاس ..
***********
حين يفقد المرء أحلامه ويقود الآخرون دفة حياته ، سيجد نفسه وسط سكون الموج وهدير العاصفة ، ويسعى الى أوراق الشجن ليكتب حلم حياته الميت !
لقد صورت الشاعرة ، احساس المرء كيف يشعر في اليوم الواحد ، او الساعة الواحدة بالحب للحظات، وبالكره للحظات أخرى ، ويشعر بالخوف والقلق والأرق تارة وبالأمن والطمأنينة وسكينة النفس تارة أخرى، ويشعر بالفرح والسرور بعض الوقت وبالحزن والكآبة في بعض الأحيان، وهكذا تمضي حياته اليومية في تغيير مستمر وتقلب دائم ، إنه الأرق بعينه ، وهو من الأحاسيس المؤلمة وأساس المتاعب النفسية التي يعاني منها الانسان .. وهو مسبب دمار الذاكرة والتذكر ، وهو عقبة كأداء في رؤية الأمل ،وهي التي قالت في قصيدة اخرى عنوانها "الأمل" :
عند مفترق الامنيات
ضاع أمل
كنت ارغمته الجلوس على رصيف الصبر
لكنه ، غافلني
والتحق بقافلة الاحلام
بعد ان ادمى اليأس قدميه ..
**********
ديوان الشاعرة نادية الدليمي ، ليس سوى محاولة للتعايش مع الفضاء الشعري وحدوده إللاّ متناهية ومحاولة تتماهى مع ومضة شعرية غضة، لا تستسلم لها ولا تتمرد عليها، تتوحد مع وقتها ولا تبحث عن إجابة محددة، وتجتهد من أجل اكتشاف المزيد من الاسئلة.
شكراً لصديقي ، الذي نبهني الى شاعرة واعدة ، وجعلني اعيد النظر في قرار لازمني منذ ربع قرن ... فبين ركام المجاملة ، ربما نجد لؤلؤة.. وقد وجدتها !
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
409 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع