خالد القشطيني
في أيام شبابي، لم يقع شيء ولا أثير موضوع إلا واستشهدت بكارل ماركس. ولكن بعد ما أسفر عن الماركسية من ثورات دامية وحروب ضارية تحولت عن الإيمان بالعنف والثورة الحمراء إلى الإيمان باللاعنف الذي سميته بالجهاد المدني. الجهاد ولكن بوسائل مدنية دون عنف. فرحت أستشهد بالمهاتما غاندي في أي موضوع يثار. وجرني الموضوع إلى رائد آخر من رواد اللاعنف، الكاتب الروسي ليو تولستوي.
قرأت معظم رواياته ولكن استعصت علي روايته الخالدة «الحرب والسلم». قلما استطاع الكثيرون قراءة هذه الرواية بالكامل، فهي تكاد تبلغ نحو ألف صفحة وتعتبر رابع أطول رواية في الأدب. وبالتالي تتطلب وقتا وتركيزا كثيرا في هذا العصر الذي شح به الوقت. كما يصادف القارئ صعوبات كبيرة في تذكر وتعقب كل هذه الأسماء الروسية الصعبة للشخصيات الكثيرة في الرواية وتشعب الحبكة وتعقدها واستغراق المؤلف في تسويق فلسفته الاجتماعية والسياسية. معظم من حاولوا قراءتها تخلوا عن المحاولة بعد 70 أو 80 صفحة. كنت واحدا منهم. بذلت 4 محاولات لقراءتها وتوقفت.
بيد أن صديقي نجيب المانع قال لي يوما إنه يستطيع أن يحزر ما إذا كان أي شخص يلتقي به قد قرأ كامل هذه الرواية أم لا، بعد ساعة من الحديث معه! كان ذلك تحديا لي. فعقدت العزم على نبذ كل شيء وتكريس وقتي وذهني لقراءة «الحرب والسلم» بالكامل. (وبالمناسبة كرست «بي بي سي» نهارا كاملا قبل أيام لقراءة هذه الرواية بالكامل على الراديو بمناسبة موسم الكريسماس الماضي).
ما انتهيت في الأخير من تحقيق مهمتي في الانتهاء من قراءة الرواية حتى وجدت نفسي أتخلى عن الاستشهاد بغاندي وأنتقل للاستشهاد بتولستوي في أي موضوع يطرح أمامي.
ربما يخطر للقارئ الكريم أن يتساءل، تقضي حياتك تستشهد بماركس وغاندي وتولستوي ولا تستشهد بأي شيء من تراثنا؟ الحقيقة هي أنني كلما حاولت ذلك واستشهدت بشيء من تراثنا وجدت نفسي غارقا في معمعة من الاعتراضات. هذا يتهمني بالطائفية وذاك يتهمني بالتحريف وعدم الصحة وعدم الصدق وعدم الأمانة... و... و، حتى وجدت في الأخير أن من الأسلم لي والأعقل والأحكم أن أبتعد عن التراث، ولا سيما أنه ليس لدينا أي وثائق تحسم الموضوع.
والآن أجد نفسي أستشهد بما قرأت في «الحرب والسلم» في أي موضوع يثار أمامي. وهو ما جرى لي قبل أيام وأوحى لي بكتابة هذه المقالة. سمعت أحد الأصدقاء يعلق على قيام طائرات التحالف بضرب «داعش». فقال هذه كلها مؤامرة غربية. قلت له: قولك هذا يذكرني بما قرأته في رواية تولستوي. تعرض الفلاحون للمجاعة فأمرت الأميرة ماري بفتح خزائن الحبوب لهم ليأكلوا ويلتحقوا بها لموسكو هربا من زحف نابليون. رفضوا ذلك وقالوا هذه مؤامرة علينا! نفس نظرية المؤامرة. ولكن الفلاحين الروس رفضوا المساعدة على اعتبارها مؤامرة. نحن نتهم الغرب بالمؤامرة ولكن لا نتردد بتلقي المساعدة، بل ونتعارك عليها!
524 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع