د.محمد عياش الكبيسي
في تاريخ الديانة البوذية يُذكر أن بوذا قرر في يوم ما أن يرسل أحد تلامذته المقرّبين لعله يكون سببا في هداية مجموعة من قطّاع الطريق الذين كانوا يغيرون على الناس ويستبيحون دماءهم وأموالهم، وقبل أن يمضي سأله بوذا:
ماذا تقول إن هم ردّوك، ولم يسمعوا لك؟ قال: أقول إنهم أناس طيّبون لأنهم ردّوني ولم يشتموني! قال: فإن هم شتموك؟ قال: أقول هم أناس طيّبون لأنهم شتموني ولم يقتلوني، قال: فإن هم قتلوك؟ قال: أقول إنهم أناس طيّبون لأنهم أطلقوا روحي وخلّصوها من سجن هذا الجسد! قال له بوذا: مبارك أنت لقد وصلت إلى درجة النيرفانا!
استذكرت هذه القصّة وأنا أشاهد عشرات الأطفال من مسلمي الروهينجا يوضعون على صفائح تستعر تحتها النيران لتتفحّم أجسادهم الطريّة وتطير أرواحهم البريئة تشكو إلى بارئها ظلم الناس، ليسوا أولئك الذين كانوا يقطعون الطريق، بل أولئك الذين وصلوا درجة النيرفانا، حيث يتجوّل المؤتمنون على الديانة البوذية بين هذه الأجساد المتفحمة وهم يشعرون بالزهو والانتصار! نعم هم رجال الدين الذين يقومون بأنفسهم بهذه البشاعات، إنها الفتاوى العملية التي لا تقبل التأويل، وما على الأتباع إلا ممارسة المزيد من ذلك ليثبتوا صدق ولائهم وتديّنهم!
في المسيحية تتردد كلمات (السلام) و (المحبّة) و (أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم) و (إذا ضربك أحدهم على خدّك الأيمن فأدر له خدّك الأيسر)، ولكيلا تكون هذه الكلمات مجرد شعارات ودعايات تبشيرية يأتي المعيار العملي الدقيق (يجيئونكم بثياب الحملان وهم في باطنهم ذئاب خاطفة، من ثمارهم تعرفونهم)، لكن هذه الذئاب الخاطفة قد ترعرعت في ظل هذه الكلمات، وغزتنا في عقر دارنا بشعارات الصليب و (الحرب المقدّسة) وما زال المبشّر يكمّل دور المستعمر، يثيرون الحروب ويمتصّون دماء الشعوب، ويصنعون (الفوضى الخلاقة) ونحن لم نضرب لهم خدّا أيمن ولا خدّا أيسر!
أما اليهود فقد جنّبوا أنفسهم مثل هذا الحرج وراحوا يكتبون كتابهم (المقدّس) بأيديهم، ليضمّنوه من البداية ما لا يخطر على بال إنسان من العُقد والأحقاد، فيشوع يستبيح مدينة أريحا (من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحدّ السيف) وحين يقول الكتاب: (ملعون من أعطى امرأة لبنيامين) فيخاف بنيامين من انقطاع نسله وذهاب اسمه، هنا تأتي الفتوى المناسبة (امضوا واكمنوا في الكروم فإذا خرجت بنات شيلوه فاخرجوا أنتم من الكروم واخطفوا لأنفسكم كل واحد امرأته) قضاة/ الإصحاح 21، وبحسب الملوك الأول/ الإصحاح 11 فإن سليمان -حاشاه- قد (عمل الشر في عيني الرب) لأنه تزوج بألف امرأة! فأملن قلبه وراء آلهتهنّ وترك عبادة الله! ومثل هذه الجرائم أصل في كتابهم وأكثر من أن تُحصى، والغريب في هذا أن اليهود مع طعنهم المتكرر بأنبيائهم بل وقتلهم أيضا، تراهم أشد الناس تمسّكا بالطقوس والشعائر والمناسبات الدينية، حتى أدخلوا الدين في اسم دولتهم المصطنعة (إسرائيل) وفي عَلمهم وعُملتهم!
في التديّن الشيعي تجد المفارقة الغريبة بين ما ينقلونه عن أئمتهم من عدل وحلم ورحمة، وبين ما يمارسونه هم من حقد وكراهية باسم هؤلاء الأئمة، حتى أصبحت المناسبات الدينية مدارس لتعلّم ثقافة الثأر والانتقام والجرأة على سفك الدم، ينقلون عن علي وهو محور الولاية عندهم أنه كان يقول: (إن لم يكن أخا لك في الدين فهو نظير لك في الخلق)، وحين يختصم مع يهودي في درع وهو خليفة المسلمين، ولا يملك البينة الكافية يسلّم الدرع لخصمه عن رضا وطيب خاطر، وبعد أن ضربه ابن ملجم على رأسه قال قولته المشهورة: (إن بقيت فأنا وليّ دمي، وإن قضيت فضربة كضربتي) ولو شاء لقتله وقتل أهله وأولاده وأوصى بالثأر من ذريته إلى قيام الساعة، لكنّ هذا النهج العلوي يحرّف اليوم عن عمد وقصد، فباسمه تُحرق المساجد والمصاحف ويُقتل الناس الأبرياء وتُنتهك الأعراض! والغريب أيضا أنهم ينقلون عنه أنه قال في الخلافة: (إنها عندي كعفطة عنز) ويعظّمون من حلمه وحكمته أنه لم يحمل سيفه مطالبا بحقه، لكنهم يُعملون سيوفهم اليوم في رقاب المسلمين؛ لأنه كان من أجدادهم قبل ألف وأربعمائة سنة من اغتصب ذلك الحق! وأغرب من هذا قولهم إن عليا سكت عن عمر وهو يقوم بكسر ضلع فاطمة وإسقاط جنينها، ثم هم اليوم يستبيحون قتل كل عُمريّ بتلك الجريرة، والرواية كلها طعن في عليّ أكثر من طعنها بعمر، لكنه التدين المصنوع الذي يعبّر عن ذات الصانع أكثر من تعبيره عن حقيقة الدين.
الحسن سبط النبي وابن عليّ الذي أثبت زهده بالحكم والخلافة وتنازل بها لمعاوية، فجمع بذلك كلمة المسلمين، وأغلق باب الفتنة، بيد أن هذه القصّة لا تُذكر في المناسبات ولا تُعلّم للناس، وكأنّها عورة يجب سترها! بينما يجري التركيز على قصّة الحسين وبقراءة مختلفة عن الواقع وفيها تشويه كبير للحسين نفسه، حيث يصورونه وكأنه جاء مطالبا بالحكم وثائرا من أجله، والوقائع والأرقام تكذّب هذا، فأي ثورة تكون بسبعين رجلا ومعهم نساؤهم وأطفالهم وتبعد عن عاصمة الحكم مسيرة شهر! إن الحسين قُتل مظلوما هو ومن معه فنال الشهادة وباء قاتلوه بالإثم، نعم لقد كان معارضا لحكم يزيد وهذا حق، وقد خرج بالفعل معلنا لهذا الحق وداعيا للإصلاح، ولم يرد عنه أنه أوصى بالثأر والانتقام من أعدائه، فضلا عن عامة المسلمين الذين لم يحضروا الواقعة أصلا ولم يرضوا بها.
وفي الطرف المقابل ترى الصورة ذاتها من عبدالرحمن بن ملجم وإلى اليوم، فابن ملجم لم يقتل عليا بدافع سياسي ونفعي بل قتله (تديّنا) وتقرّبا إلى الله! وهكذا تُراق اليوم دماء علمائنا وشبابنا بالمنطق ذاته، وهذا التديّن المصنوع قد محا من أدبياته {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} ليحل محلها (أنا الضحوك القتّال) وهو حديث باطل سندا ومتنا، وفيه إيحاءات بالمكر والغدر، ووالله ما كان رسول الله ضحوكا قتّالا، بل كان كما وصف نفسه (إنما أنا رحمة مهداة) بأبي هو وأمّي.
532 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع