ذكريات (إزكرتي) في العاقولية... كما لو كنتُ هناك!!

                                     

ذكريات (إزكرتي) في العاقولية... كما لو كنتُ هناك!!
كتبها: أحمد محمّد أمين (*)

نبضاً يرفُّ مع كيانات هذا المكان،لكني لا اُدركُ تماماً ما إذا كان الوقتُ فجراً قبل شقشقة الصبح وصياح الديكة، أم مساءً ينحسر فيه النهارُ ليتربع الليلُ على عرشه؟.
وفي كلّ حال..
هو ذات المكان الذي احببتُ.....
ففيه عشتُ سنةً، وكلُّ يوم من أيامها كان دهراً، هنا آوَانيَ الجوعُ أحياناً ... والوحدة ويُتْمُ اليَفاعة، والقراءاتُ النهمة. فاستعيرُ كلّ يوم كتاباً. واجلسُ شطراً طويلاً من الليل منغمساً في المطالعة. ففي غرفة من غرف أحد هذه البيوت، قرأتُ كتباً ممنوعة ومعروضة في المكتبات...
ولهذا الزقاق من أزقة العاقولية رائحة لا مثيل لها في أيّ حيّ من أحياء بغداد في مبتدأ خمسينيات القرن الماضي، فعلى جانبي الزقاق أبوابُ بيوت متراصّة، بابُ يُجاورُ باباً كما لو كانت الأبوابُ أخوة أو توائم...
خشبٌ قديم رطبٌ متآكلٌ لا يحمي ساكنيها من اللصوص لكنها تسترُهم من العيون الغريبة، والصبح نديٌّ مضبّبٌ قليلاً، يغشاه هدوءٌ غبشيّ، ما عدا هديل الحمائم وزقزقة العصافير فوق الأسلاك والأخشاب المغروسة في الأسيجة، وفي ثقوب الجدران المتآكلة...
الزقاقُ من مبتدئه حتى نهايته يغشاه لونٌ بنيّ كما لو كان مطلياً بالغبار الأصفر الغامق الذي يغزو بغداد والمدائن الواقعة جنوبها في مثل هذا الوقت من أيام السنة.
خمسة ُاشخاص يمشون عبره، ذاهبين وآيبين، وآخرون خارجه عبروا شارع الجمهورية تُجاه جامع نائلة خاتون المجاور لمعهد المعلمات - أيامئذ – (الاعدادية المركزية للبنات حالياً)  ومن نهاية الزقاق حتى الجامع يغشى المشهدَ ضبابٌ شفيف مائل الى الزرقة، وأكاد أرى قبة المسجد ومنارته بلون الأمل الذي يُشقشقُ عن بعد لمنتظره...
وأكادُ أجزم أني أعرف كلّ حنية وزاوية هناك.. حتى البيوت والأزقة التي طالها الهدمُ لفتح شارع الجمهورية...
الأبواب ما زالت موصدة...
وفي وسع المارّ عبر الزقاق أن يسمع أصوات الآباء والاُمهات وبكاء الأطفال الصاعد من السطوح أو من داخل البيوت...وأنا لم أزل في غرفتي بالطبقة الثانية أرنو من النافذة الكبيرة العارية من الستائر الى مبتدأ الزقاق المتصل بشارع الرشيد والمطل على دكانَ بائع الفاكهة المشهور – كنو - في الجهة الثانية من شارع الرشيد..
البيت الذي اسكنه ينطوي على بضع عائلات تقطن في الغرف التحتانية..
وأنا ساكنُ هذه الغرفة في الطبقة العلوية، يُجاورني رجلٌ مسنٌّ يبيع سكاكر وحلويات موضوعة في مربع خشبي ذي حافات واطئة أشبه بالأشرطة يضعه فوق رأسه ويدور في الأزقة من الصبح حتى مغيب الشمس. ولا أذكر أني التقيته وتحدثّتُ اليه، بل أرى ظهره نازلاً الدرجات الحجرية الى الباحة ثمّ يخرج الى الشارع.
الطبقة ُ العليا مربع مسوّرٌ بقضبان حديد، وبين أبواب الغرف العليا والسياج مسافة متر.
قبالة غرفتي غرفتان بينهما بابُ تنام (بهية الكردية) وزوجها في غرفة، والأطفال الأربعة في غرفة...
وكلّ ساكني الغرف السفلى والعليا ينامون على البلاط المفروش بالبسط والحصران...
كنتُ اتفقتُ معها على مشاركتهم وجبات الطعام الثلاث وايجار الغرفة لقاء ثلاثة دنانير، مع غسل ملابسي.
بعد أن تناولتُ قطعة خبز وشيئاً من القشطة والمربى واستكانة الشاي تأبطتُ كتبي وغادرتُ إلى مدرستي..
أنا الآن في الرابع الاعدادي، ولي ثلاثة من الأصدقاء في المحلة: غفوري ابن مؤذن الجامع، المشرف على النظافة. أحياناً يدعوني غفوري الى العشاء، فوالده من السليمانية لكنه يسكن في بغداد منذ ثلاثينيات القرن الماضي. ماتت زوجته وانتقل يعيش في إحدى غرف الجامع على ميمنة الباب الرئيس. غفوري يعمل لدى ميكاني سيارات، لهذا كان دائماً تشمّ في ثيابه وجسمه رائحة الزيوت والبانزين. كنا نلتقي في الأماسي وأيام الجمع.
أمّا رحومي فيكبرنا سنّاً وطالب فاشل في المدرسة لذلك تطوّع في الجيش ولا نلتقيه الا أيام الجمع.
بينما كان طارق شاباً يكبرني سنة ً، ويعمل في معامل السكك في الشالجية، ويعرج قليلاً حيثُ اُصيب باطلاقة نارية في منطقة باب الشيخ أيامَ تظاهرات 1952.
كان لكلّ واحد منهم صديقة ٌمن تلميذات المدارس. ولم يكونوا يُحبّون قراءة الكتب. كنتُ اذهب الى سوق السراي مرّتين أو ثلاثاً كل اسبوع، واستعير كتباً من اصحاب المكتبات لقاء مبلغ زهيد.
أخي الكبير يبعثُ اليّ كل شهر ستة دنانير، ثلاثة لبهية الكردية، وثلاثة أصرفها على شراء الملابس والمقاهي التي اتردد على بعضها في منطقة الحيدرخانة امضي فيها ساعتين أو أكثر في حفظ دروسي والمطالعة الحرّة.
كان الدوامُ المدرسي يبدأ من الثامنة صُبْحاً حتى الواحدة ظهراً. وبقية النهار اوزع وقتي بين القراءة وصحبة أصدقائي نتمشّى في شارع الرشيد، ويأخذنا رحومي الى شارع النهر موئل جميلات بغداد.
لكني كنتُ افضل قضاء اوقات العصر وأيام الجمع في مقهى (صاحب) الملاصق للمدرسة المستنصرية والمشرف على دجلة في ميسرة جسر الشهداء حين تعبرُه الى جانب الكرخ. أحياناً اعبرُه وامضي أوقاتي في مقهى (البيروتي) عند نهايته اليسرى في جانب الكرخ ... واحياناً اتردد على مقاهي الجعيفر والرحمانية.
لفظتني فتحة ُ الباب، وبخطوات متباطئة وكسولة قطعتُ الزقاق وبدأت الأبوابُ وتُفتحُ تندلقُ منها أصواتٌ...
وأطفالٌ ذاهبون الى المدارس...
 حين رفعتُ رأسي الى السماء كانت صافية وقد اختفت تلك الألوان التي تسود معالم الزقاق في مطلع الصبح الذي له هذه اللحظة َايقاع آخر. صعدتُ بضع درجات أوصلتني الى الرصيف، ثمّ توغلتُ في شارع الرشيد مارّاً أمام بوابة جامع الحيدرخانة تحيطه من الميمنة والميسرة الدكاكين آخرها محل الرسام الأسمر الذي كان يرسم صور المشاهير من المطربين والممثلين.
ثم عبرتُ شارع الرشيد تُجاه المدرسة الآيرانية ومقهى حسن عجمي، وقفتُ أمام بائع الصحف أقرأ عناوينها الكبيرة
 الشعب، الحرية، البلاد، الزمان
 ومضيت مروراً بالمصورعبد الرحمن ومقهى الزهاوي ومطعم العاصمة فسوق الهرج، ثم اتجهت يساراً نحو الاعدادية المركزية للبنين مارّاً بجامع الأحمدي ومقهى البلدية. وباب جريدة الزمان ومحلات صانعي الأختام.
هكذا الحال ستة أيام الاسبوع ...
فهذه اللوحة التي ارنو اليها على جدار الصالة استقدمتْ كلّ ما ذكرتُ : الزقاقَ الطويل، وأربعة أبواب على اليمين فوقها اربعُ نوافذ، وثلاثة ابواب على اليسارتعلوها ثلاثُ نوافذ. ومارّة آتون وذاهبون....
وربّما كنتُ أحد الآتين أروم الخروج الى شارع الرشيد لاُكملُ دورة هذا اليوم من حياتي.
فإن كنتُ الساعة َ خارج ذلك الزمن قبل ستين عاماً
فما زلتُ ثمة َ فتىً صغيراً أمارس حياتي في ظل أمن رغيد تفتقده بغدادُنا اليوم.
أعرفُ أنّ المدائن لا تموت أبداً ....
ولا تغيب ....
ما دامت اتخذتْ مكانا في قاع الذاكرة ...

                           
(*) الـ (إزكرتي) في اللهجة البغدادية هو الأعزب الذي يعيش بمفرده، أو لوحده، وليست معه عائلة، سواء في (دار) أو (غرفة) مستأجرة بمنزل أو فندق... وكانت العادة البغدادية أن لايسمح لهؤلاء بالسكن في البيوت إلا بعد أن يتأكد صاحب الدار من أخلاق هذا الزكرتي.
(**) المقال منشور في جريدة القدس العربي 26/7/2012 مع التحية للاستاذ أحمد محمدأمين الكاتب العراقي المعروف

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

757 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع