هو عبد تعرض لبنت مولاه، وراودها عن نفسها فنهته، فعاودها، فامتنعت عليه، فعاد لعادته، فقالت: «إن كان لا بد فإني مبخرتك ببخور، فإن صبرت على حرارته صرت إلى ما تريد»، فعمدت إلى مجمر، فأدخلته تحته، واشتملت على سكين حديد فجبت به مذاكيره، فصاح فقالت: «صبرا على مجامر الكرام».
ثم لم يلبث أن مات، فصار مثلا لكل جانٍ على نفسه، ومتعرض لما يَجِل عن قدره، وفيه يقول الفرزدق لجرير:
«وهل أنت إن ماتت أتانُك راكب إلى آل بسطام بن قيس بخاطب وإني لأخشى إن خطبت إليهم عليك الذي لاقى يسار الكواعب»..
إن من دلائل كمال عقول الرجال أنهم لا يطلبون ما ليس لهم، ولا يبنون قصورا على الرمال، ولهذا اشتهر عند حذاق التأويل أنهم يقيسون الرؤيا على حال الرائي، ولا نريد بهذا أن نقوض العزائم ونصادم الهمم، لكن لا بد من الموافقة والنظر إلى الحال، وجريان الدهر ومعرفة الإنسان لنفسه. قال أبو الطيب:
«ومن جهلت نفسه قدره يرى الناس منه ما لا يعلم»..
ولا ريب في أن الظهور العاجل، غير المسبوق ببيات للتحصيل والتأمل والنظر، مؤذن بزوال عاجل، وانزلاق قدم وتعثر خطى، وأسوأ عاقبة من بقي في مقامه وأخذ يتصدر لكل نازلة، ويحكم في كل مسألة وهو خالي الوفاض من كل ما يؤهله لذلك، فمن الناس من ينطقه مكانه - كما يقول أمير الشعراء - وهذا بلاء جم تسوء به أحوال الأمة وتعظم به مصائبها.
والاحتكام إلى الدهماء أسوأ الطرائق عاقبة، وأعظمها وبالا على الأمم والأفراد والشعوب، ولهذا عد بعض العلماء أن من أعظم المصالح حقن الدماء وتسكين الدهماء.
وهذه الأمور متعلق بعضها ببعض، وبريق الإعلام أوقد نارها وأذكى جمرها، وما زالت الأمة تؤدي خراج ذلك كله من دمائها وأبنائها حتى يأذن الله بصلاح الحال وحسن المآل.
1095 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع