د.محمد عياش الكبيسي
إن ورطة الحوثيين في اليمن باهظة التكاليف وثقيلة التبعات، ولا أدري إن كان هناك فعلا من جرّ رجل الوليّ الفقيه إلى هذا المستنقع، فاليمن ليس بلدا بتروليا كالعراق كي تستثمره إيران وتسدّ فاتورة إخضاعه وترويض صعابه وتضاريسه المعقّدة،
كما أن بُعد الشقّة يضيف مصاعب جديدة، وإذا كانت إيران تفكّر بنشر تشيّعها الديني أو السياسي في بلد مثل اليمن من خلال الهيمنة المباشرة، فإن هذه الهيمنة ستقلب الأمور رأسا على عقب، فإيران لم تستطع رغم مواردها الهائلة أن توفّر أسباب العيش الكريم لمواطنيها، وما زال الكثير منهم يحلم بالعمل في دول الخليج بأيّ مهنة أو حرفة، فكيف ستتمكن من توفير ذلك لغيرها؟ وإذا كان المواطن العراقي وهو يعوم على بحيرة لا حدود لها من البترول والموارد المتنوعة يعيش اليوم في ظل عباءة الوليّ الفقيه كأسوأ عيشة يمكن أن يعيشها البشر على مستوى العالم فما الذي ينتظر المواطن اليمني؟
اليمنيون قطعا لن يتشيّعوا التشيّع الذي تريده إيران، وسيبقون شافعية وزيدية وأقليّات دينية متآخية بهويّة عربيّة يمنيّة، ولن يكونوا صفويين، ولن يكونوا فُرسا، حتى لو حكمهم الحوثي مئة سنة، ولن يحكمهم، وليس هذا الذي نخشى منه. إن إيران ربما تدرك هذه الحقيقة، ولذلك قد تكتفي بأن تلعب دورا وظيفيا لمشروع آخر عنوانه (الفوضى الخلاقة) وهذا المشروع ليس مشروعها، وليس لها فيه ناقة ولا جمل، ولا يعود بالنفع لها أو لمواطنيها بدرهم واحد، إنها سياسة هدم وتخريب كل ما هو قائم لإعادة صياغة المنطقة وتشكيلها وفق مقاسات المصالح الأميركيّة، ومن هنا ندرك سرّ السكوت الأميركي وغض الطرف عن هذا الشذوذ والانقلابات المتكررة على الشرعية والديمقراطية والقيم الغربية والليبرالية نفسها!
إن الطريقة المعتادة لهذه السياسة التخريبية أصبحت واضحة، صناعة الحدث الشاذّ والمستفز ثم التحكّم بردّة الفعل المتوقّعة لدفعها نحو الشذوذ المقابل، وتغييب كل الحلول العقلانية والمعتدلة التي تعرف متى تفاوض ومتى تقاتل، ومن يقرأ التجربتين الحاضرتين في سوريا والعراق لا يمكن له إلا أن يتوصّل إلى هذه النتيجة، من هنا قد يُدفع اليمنيون دفعا خاصة الشباب المتحفّز إلى راية مثل راية (الجهاد العالمي) فتدخل أهداف جديدة لا صلة لها بالمشكلة القائمة، تبدأ بتفجير القبور وقمع البدع ومحاربة القات والدخان، وتنتهي بإعلان الحرب على السعوديّة والسودان وإريتريا وجيبوتي واليابان، وبين هذا الشذوذ وشذوذ الحوثي سيفضّل عامة الناس غلق أبوابهم والتعامل مع الأحداث تعامل المتفرّج المنتظر حتى تنجلي (الفتنة)، ولن تنجلي، لأنّها فتن مصنوعة ومقصودة لتحقيق أهداف وغايات أُخَر.
إن أخطر شيء في هذه المرحلة هو حالة الفراغ، وخلوّ الساحة من العنوان الجامع والمقنع برموزه وبرنامجه وخطابه، وإلا فإنّ ردّة فعل الشباب في الغالب ستندفع على طريق القاعدة الفيزيائية (لكل فعل ردّ فعل يساويه في القوّة ويعاكسه في الاتجاه).
إن العرب عامة ودول الخليج خاصة والمملكة العربية السعودية بشكل أخص عليهم أن يتخيّروا واحدا من الاحتمالات الآتية:
أولا: هيمنة حوثية شاملة تمتلك الصواريخ بعيدة المدى وتتحكم بمضيق المندب، وتهدد بالوصول إلى مكة والمدينة.
ثانيا: فوضى شاملة لا تبقي ولا تذر، وبعدها يتدخل الغربيون (لحلب) المنطقة وحرقها بآلاف الطلعات الجوية وصواريخ كروز والتوماهوك، ثم تشريد الملايين من البشر من الرجال والنساء والأطفال.
ثالثا: مساعدة اليمنيين للخروج من مأزقهم بتشجيع الأصوات الشجاعة والفاعلة والتي تتسم بالواقعيّة والعقلانيّة، والتي تبحث عن الممكن من الحلول بلا شعارات ولا أيديولوجيات.
إن المملكة العربية السعودية التي أثبتت أنها ما زالت الدولة العربية المحورية الأقوى، وأنها الأكثر استقرارا في دول المنطقة، وأنها بقيادتها الجديدة قد جاءت بالفعل برؤية جديدة، لا يمكنها أن تتخذ الموقف السلبي وهي ترى النيران قد اشتعلت في حدودها الشمالية وفي حدودها الجنوبية.
إن القراءة الفاحصة لسلسلة المراسيم السريعة التي أصدرها الملك السعودي الجديد سلمان بن عبدالعزيز مع الدعم الإقليمي والدولي الكبير ووقوف الأسرة الخليجية معه تؤكّد أن السعوديّة قد تهيأت بالفعل لتأخذ مكانها اللائق ودورها المنشود في هذه الأمّة، وبما يتناسب مع التطورات والتحديات الجديدة.
إن حرص السيد رجب طيب أردوغان على أن يكون في مقدمة الحضور المشاركين في تشييع الملك الراحل رحمه الله، واهتمام السعوديين والخليجيين جميعا به، له أكثر من دلالة، وأعتقد أن الكرة الآن هي في مرمى الجماعات الإسلامية ومنها جماعة الإصلاح اليمنية لكي تبادر إلى خطوة إيجابيّة شجاعة ليس في مجال المجاملة والعلاقات الدبلوماسيّة بل في مجال المكاشفة والمناصحة والتشاور، ثم التوصّل إلى صيغة ما ولو بالتنازلات المعقولة لتجديد أواصر الثقة والطمأنينة، بل ولردم الفجوة حتى بين الفعاليات الإسلامية نفسها، وإنهاء هذا الخلاف المؤذي بين الجماعات الإسلامية وبين المؤسسات الدينيّة الرسمية، بين (مفتي السلطان) و (مفتي الجماعة)، والذي انعكس بطريقة سلبية على المتديّن البسيط وعامة الناس.
أليس غريبا أن تقام مؤتمرات كبرى تنفق عليها الملايين للحوار بين الأديان، وللتقريب بين المذاهب، ثم لا نجد ورشة عمل صغيرة للتحاور بين خريجي المؤسسة الواحدة، وعلماء المنطقة الواحدة، بعد أن فرقتهم السبل بأسمائها وعناوينها. إن تجربة الإصلاح الأخيرة ربما علمتهم وعلمتنا أيضا أن العمل الجماعي مهما كان حجمه ومهما كانت نجاحاته لن يقوى على أن يتحمل أعباء الأمة لوحده، هؤلاء إخوان مصر، وأولئك إخوان العراق وسوريا وتونس وليبيا، والفصائل واللافتات والعناوين الأخرى، إن الكارثة ستحل علينا جميعا حينما تنحاز كل جماعة من هذه الجماعات إسلامية كانت أو غير إسلامية إلى عنوانها الذي يميّزها، وتصنع لنفسها حاجزا عن طاقات الأمة ومؤسساتها الرسمية وغير الرسمية، هناك سيكون العفن والشكوك والظنّ السيئ، وتكثر الغيبة والنميمة والوشايات الكاذبة، بين الحاكم والمحكوم وبين المحكوم والمحكوم، ومن الجميع على الجميع، وتلك وربّك الحالقة.
قلت لصاحبي ما بال أهل الحق يفترقون وأهل الباطل يجتمعون؟ قال: هؤلاء يجتمعون على المصلحة، فقلت: سبحان الله ونحن لحدّ الآن لم نجد مصلحة نجتمع عليها؟!
• عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
572 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع