الطاف عبد الحميد
عربة لذوي الاحتياجات الخاصة ، تبدو جديدة وأنيقة ، يشغلها رجل ستيني يعتمر(غترة) ناصعة البياض تخفف من سمرة وجهه ليبدو قمحيا أو خمريا ،
تتدلى رجليه من الكرسي المتحرك ، منتعلا حذاء أسود ظاهر تغطيه حتى نصفه( دشداشته ) الطويلة ، كانت التجاعيد قد رسمت إنحناءات مختلفة في كل الاتجاهات لتشكل بمجملها إنسان يبدو لمن يراه أنه سليل مكابدة ومعاناة مع مسحة من الاعتزاز بالنفس ترتسم عليه من خلال حركة رأسه وعينيه بطيئة الايقاع مع الاحتفاظ بهيكلية إنتصابه على كرسيه المتحرك والثابت في المكان قرب غرفة إستعلامات دائرة التسجيل العقاري ...لاأدري لما تبادر الى ذهني انه معوق حرب دون الحوادث الاخرى المسببة لمثل هذه الاصابات التي تقيد حركة الانسان الا من خلال كرسي متحرك .. انا مصيب في تقديري ولما لا اكون مصيبا فحالات الاعاقة الحربية في عراقنا تربو على 90% من الحالات الاخرى والرجل ربما يحتل رقما بعدد المصابين المعاقين ، اقتربت من غرفة الاستعلامات حيث كانت العربة بحملها منزوية بالقرب من احدى زوايا الغرفة.. هممت بالمغادرة بعد ان سلمت الوكالة الخاصة بنقل ملكية بيتي الى احد الاشخاص الذين إختصوا بتعقيب مثل هذه المعاملات لقاء اجور يتفق عليها ، إنتابني هاجس ما يدفعني للسلام عليه قبل المغادرة ، ولكني لست فضوليا بما يكفي للاحتكاك معه والسؤال عما اقعده على كرسيه المتحرك ، الامر سيبدوا سخيفا ، او ربما تحول الى استنكار من قبل الرجل فيروغ عني بوجهه ويحدث لي الما نتيجة للتجاهل من قبله والجهل مني .. التقت عيني بعينيه وانا احث الخطى للخروج من الباب الضيق للاستعلامات والذي تم تضييقه ليمكن شخص واحد من المرور من خلاله لاغراض التفتيش في الدخول نتيجة التدهور الامني المستمر منذ عقد زمني كامل ، دخل من الباب الضيق شخص بدا لي أني أعرفه ، إلتقت عينانا وبقيتا مفتوحتان ينظر احدنا للأخر بإتجاهين متعاكسين ، أنا اهم الخروج وهو يهم الدخول ، هو يريد أن يعرف من أكون وأنا أريد أن أعرف من هذا الشخص الذي أعرفه ولا أعرفه بأن واحد ، تبادلنا الابتسامة بيننا بدون ان نتكلم ، عقلينا يسترجعان ماضي مضى ، كلانا أدرك أننا من ماضي طواه الزمان ، قال لي مبادرا الست فلان ؟ تبسمت قبل أن أقول له شيئا ، وأدرك الرجل أني أعاني حرجا ، فبادرني قائلا ، أنا الرائد محمود عملنا معا في وحدات الفرقة المدرعة العاشرة في بداية الحرب العراقية الايرانية في قاطع الشوش ديزفول ، كان الحديث بيننا يجري بالقرب من الشخص الذي يجلس على كرسيه المتحرك وقد لفت إنتباهي أنه كان ينظر الى الرائد محمود والابتسامة قد بدت واضحة على وجهه ، فتبادر الى ذهني أنهما قد يكونا على معرفة ، إلتفت الرائد محمود اليه وإنكب عليه يقبله وتبادلا التحايا الحارة بينهما وأنا أصغي وشيء من الدهشة يعتريني لما يحصل على الرغم من كونه موضوعا يتكرر دائما بين الناس ، محمود يسألني هل تعرفه ؟، قلت: لا والله يشرفتي أن أتعرف عليه ، قال لي : إنه احد الضباط الذين نجوا بإعجوبة من موت محقق ، ثم أستدرك وأكمل قائلا سوف أحكي لك ماحدث فيما بعد ، القيت التحية عليه وتمنيت له العون والتوفيق من الله ، وتسمرت لبرهة من الوقت بينهما أسمع الاحاديث التي مر عليها اكثر من ثلاثة عقود ، ثم ودع احدهما الاخر .. دخلت مع الرائد محمود الى صالة الدائرة حيث توجد مقاعد مزدوجة ، جلسنا معا ، وأستذكرنا أحداث مرت علينا سوية بعضها مؤلم والاخر مضحك وشر البلية مايضحك .. إن إستذكار احداث أعرفها أقل تشويقا من احداث لاأعرفها ، قلت للرائد محمود :ماقصته ؟ ، وأشرت الى مكانه الذي اصبح خاليا منه ، حيث يبدو أنه قد غادر القاعة دون أن نتنبه الى ذلك ، قال لي في معركة البسيتين عام 1982 فقدنا اثره بعد إنسحابنا الى الحدود الدولية نتيجة خرق أحدثه الايرانيون في مواضعنا الدفاعية ، وبقي الحال كما هو لا أحد يعرف عنه شيئا وهي حالة من حالات الحرب العديدة المعروفة ، بعد عامين او ثلاثة تم تبادل الاسرى المعوقين بين الطرفين المتحاربين بجهود إنسانية من الصليب الاحمر الدولي ، وكان هو ضمن الاسرى المعاقين العائدين للوطن ، لا يبدوا الامر غريبا لحد الان ، لكن الغرابة بما حدث له ، فقد روى لنا عند عودته ، انه أصيب بشضايا قنبلة هاون صغير العيار سقطت على بعد امتار معدودة أخترقت اماكن عديدة من جسمه ، يقول : بعدها بزمن يتعذر تقديره شعرت بإرتطام جسمي بقوة بسقوطي على اجسام لينة ، اعادت لي الوعي نتيجة الارتطام ، فتحت عيناي وتبين لي أنني في حفرة بارتفاع مترين تقريبا مكدسا فوق جثث بشرية تصطبغ بحمرة الدماء ويعفرها التراب ، وأنني حيث أنا نتيجة تجريفي من قبل (شفل) كبير يقوم بدفع جثث الشهداء الى الحفرة لدفنهم في قبر جماعي ، لم أقوى ساعتها على الصياح ، فقد أدركت ما أنا فيه ، الا أني تمكنت من رفع يدي والتلويح بها بقوة جيئة وذهابا ، استطعت جلب نظر أحدهم ممن كان يراقب عملية الدفن الجماعي ، توقف الشفل وهدأ صوت محركه القوي ونزل الى الحفرة عدد من الجنود وسحبوني من بين الجثث ، وعمل أخرون على رفعي خارج الحفرة ، فقدت الوعي مجددا ، وتبين لي أنني قد أخليت الى موقع طبي عسكري ، ومن ثم الى مستشفى ، وبقيت عدة أشهر أعالج من الاصابات الكثيرة الا أني فقدت القدرة على حركة الاطراف السفلية نتيجة أصابة في العمود الفقري . "هذه من نوادر الحرب قلت لزميلي محمود والتي تعبر عن بشاعتها وأهوالها " ، إنها قصة حقيقية جديرة بأن يقرأ الناس عنها ، قلت له : سأكتب عنها كي لاتضيع من ذاكرة العراقيين ، ودعته وودعني وعدت بذاكرتي الى الحفرة أتبين ماأحتوته من ألم وقسوة لاتحتمل
3645 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع