إبراهيم الزبيدي
خلال استقباله السفراء المسلمين لدى إيران قال المرشد الأعلى السيد علي خامنئي: إن "شعوب اليمن، والبحرين وفلسطين هي شعوب مظلومة، ونحن ندعم المظلوم بأي قدر نستطيع". وأكد "قدرة الجمهورية الإسلامية الإيرانية على مواجهة خطر (الجاهلية الأولى) التي أعيد إنتاجها".
ونحن معه، وسننتفض مع جيوشه ضدها، بكل ما أوتينا من قوة ومن رباط الخيل، ولكن ليس قبل أن نتفاهم ونضع تعريفا عادلا وصادقا ومحايدا لهذه الجاهلية، ومن يعيد إنتاجها هذه الأيام.
وأجد مناسبا هنا أن أستعير فقرات من مقال نشرته قبل سنوات عن الملا محمود الدهيمة.
وهذا المُلا كان إمام مسجد صغير في مدينة تكريت، في الستينيات من القرن الماضي، طويل القامة، عريض المنكبين، عالي الجبين، تجعل منه عمامتُه البيضاء الطويلة عملاقا وحيدا في مدينة أغلبُ رجالها قصار القامة. قليلون فقط، وأنا كنت منهم، يعرفون ما يخفي تحت عمامته من ثورة عارمة على رجال الدين، زملائه، ومن نقمة ساخنة على كل من يرتزق بالدين. حاورته ذات يوم.
" قلت: هل أنت، حقا، تساوي بحبك واحترامك بين جميع الناس دون تمييز؟
قال: نعم، والله شاهد علي.
قلت: حاكما أو محكوما؟
قال: نعم، وأزيد المحكوم مودة، لأنه أحوج إليها من سواه.
قلت: حتى لو كان من غير قومك ودينك وعشيرتك وطائفتك؟
قال: إن الإنسان لديّ بشخصه. فإن كان مسكونا بالفساد فسأدعو له بالعافية، وإن كان معافى في داخله وسريرته فسأدعو له بدوام العافية. أما لونه ودينه وطائفته وأهله وعشيرته وأمواله فلا تزيد وزنـه لديّ ولا تـُنقصه.
قلت: أنت سني، فهل تحب الشيعي - مثلا- بقدر حبك لابن طائفتك؟
غضب وقال: لا تنطق بهذا في حضرتي، فهو تخلف لا يليق بي وبك. إننا أتباع دين واحد، وأحباب رسولٍ واحد، وعشاق أهلِ بيتٍ واحد.
وأضاف: إن رجل الدين مأمور من الله ورسوله بالسعي للسلام والخير، وليس لإحياء العداوات الميتة، وإيقاض الأحقاد الهمجية النائمة.
هل يعقل أن الله الرحمن الرحيم بعث نبيه الكريم لينشر الخراب والشر والعنجهية والعصبية، ويشجع الناس على الذبح والحرق والاغتيال والاغتصاب والاحتلال؟
المشكلة الكبرى أن كلا منا يفسر كلام الله على مزاجه، وعلى مقاس مصالحه، وحسب هواه. وحين تقلب صفحات التاريخ تجد أن كل الجبابرة والجلادين، من الحكام والقادة، كانوا يستخدمون رجال دين مزورين يقلبون ظلمهم عدلا، وسرقاتهم أمانة، وفجورهم تقوى وعبادة. وكانوا، جميعا، يجدون في كلام الله ما يمكن تطويعه لكي يصبح الأسود أبيض، والقتل جهادا في سبيل الله، والسرقة شطارة.
وقال مستطردا: إن ما يحدث اليوم من احتلالات، وهتك للأعراض، وهدم للبيوت، وقتل وتعذيب، وحروب صغيرة وكبيرة، إنما هو من زرع رجال دين، قاصدين كانوا أو غير قاصدين.
فحين يولد الواحد منا يكون كالكتاب الأبيض الصقيل، نقيا بريئا ليس في نفسه شيء من حقد أو عداوة لا لشيء ولا لأحد. ولكن إذا ما ساقه حظه العاثر إلى رجل دين جاهل ولئيم فسوف يزرع فيه الكراهية والحقد، ويشعل في قلبه نار العصبية الدينية أو المذهبية، يعود الناس إلى عصور الجاهلية الأولى، وتصبح الدنيا جحيما تبحث نارُه عما تأكله.
ولكن إذا وفقه الله فرماه بين يدي رجل دين ذي بصر وبصيرة، ساع ٍ إلى الخير والمحبة والسلام، فسوف يملأ نفسه وقلبه بحب الخير، وباحترام الغير مهما كان دينه وعقيدته وطائفته. أنا لا أحب ولا أحترم زملائي رجال الدين المشاغبين الذين يرون الحق ويغفلون عن اتباعه، ويسيرون وراء أهواء فاسدة، أو مفاهيم خاطئة عن الدين وجوهره.
ثم سكت وتململ وقال: بيني وبينك، لو كان الأمر بيدي لجعلت الوعظ والإرشاد الديني والإمامة والأذان وأي نشاط ديني آخر، للمسلمين والمسيحيين واليهود، عملا خيريا تطوعيا بدون مقابل، ولفرضت على كل رجل دين أن يبحث له عن مصدر رزق آخر، غير خدمة الله ودينه، ليتكسب منه. عندها ستجد الساحة قد خلت من الذين يقيسون دينهم بمقدار ما يدر عليهم من مال.
قلت: أنت وحدك من يحمل هذه الأفكار النبيلة، أنت تغرد خارج السرب، يا ملا محمود.
قال: من أول الخلق، والناس بين خير وشر، بين صلاح وفساد. ولا تغيير لسُنته، ولا تبديل لإرادته. وابتسم مرة أخرى ابتسامته اللطيفة التي تنشر السلام والطمأنينة في النفوس". وهنا تنتهي الاستعارة.
والآن تعالوا نتفاهم ونناقش، بنية صافية وقلب سليم، لنحدد حقيقة الجاهلية، والذين يقومون بإحيائها. فالشر والخير، خصوصا في أيامنا السود هذه، بحاجة إلى تعريف وتحديد وتقنين. فممارسة العنف كأداة سياسية جاهلية. وتمويله جاهلية. وتصدير الفكر الظلامي الطائفي والعنصري الذي يؤجج الأحقاد بين الطوائف والشعوب جاهلية. والقتل على الهوية جاهلية. وسرقة المال العام جاهلية. وتهريب السلاح والمال إلى جماعات متمردة متخلفة متعصبة جاهلية. واحتلال أراضي الغير جاهلية. وتحريك الطوابير الخامسة في الدول الأخرى جاهلية أيضا.
أما الخير فهو كل ما كان عكس ذلك. فكل رفض للتخلف والتزمت الديني والطائفي ليس بجاهلية. وكل رفض للقتل والتفجير والتدمير لتحقيق أهداف سياسية ليس بجاهلية، بل هو فضيلة وإنسانية نبيلة.
وليس معقولا ولا مقبولا أن يكون رأس رجل الدين الذي وضعت الأمة عليه عمامة بيضاء أو خضراء أو سوداء، تكريما وتمييزا وتتويجا له بالحكمة والموعظة الحسنة، وأوكلت إليه هداية الناس إلى طريق الصلاح والسلام والفضيلة، جمجمة يسكنها العنف والظلم والحقد والعصبية الطائقية، فيمنح نفسه حق تكفير الآخرين، ويُنصِّب نفسه حاكما مطلقا يحكم عليهم بالموت، حرقا أو شنقا أو سحقا، أفرادا وشعوبا ودولا وأديانا وطوائف.
وليس مقبولا ولا معقولا أن ينفق ثروات شعبه وأمته على صناعة الشر وليس الخير، فيتمادى في تشكيل وتدريب وتمويل فرق القتل والتخريب والتدمير، ويواصل زرع الطوابير الخامسة في البلدان القريبة والبعيدة، ويأمرها بحمل السلاح والتهديد باستعماله لتحقيق مكاسب سياسية أو مالية، وتسخير الفضائيات والإذاعات والصحف العديدة لنشر الخرافات والأساطير والحكايات الملفقة وإحياء العدوات وإجازة القتل والتشريد وتخريب البيوت.
وليس معقولا ولا مقبولا أن يستند في تبرير سلوكه اللاإنساني إلى تفسيره، وحده، لآيات الله، وأحاديث نبيه وسيرته وسيرة أهل بيته، ووفق ما تقتضيه مصالحه ومراميه.
فقد يصبح معقولا ومقبولا ومتوقعا أن يجد خصومه أيضا في كلام الله وسيرة نبيه وأهل بيته ما يحلل الانتقام والرد عليه وعلى أنصاره بعنف مقابل عنف، وإرهاب ضد إرهاب، أشد وأكثر إيلاما، ودون حدود ولا قيود.
فالمتابعة الدقيقة المنصفة لأفكار الحكم الطائفي المتزمت في إيران، وسلوكه وحروبه، على امتداد أربعة عقود، نرى العجب العجاب. ففي كل مدينة من مدن العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن والبحرين آثار دامية من أفعال هذا الولي الفقيه، ومخططات حكومته، سالت وتسيل بها أو بسببها دماء بريئة، وذرفت وتذرف دموع غزيرة من أمهات على أبائهن، ومن زوجات على أزواجهن، ومن أطفال على آبائهم أو أمهاتهم، وتدفن جثث تحت الأنقاض، وتتعطل وتتعقد حياة الناس البسطاء، وتتوقف السياسة، ويموت الاقتصاد، وتزدهر الجريمة.
فالجاهلية لابد أن تتوقظ جاهلية أخرى تقابلها وتفعل أفعالها. فأي فرق بين داعش (سنية) منحرفة مدمرة مخربة، وبين داعش أخرى (شيعية) لا تقل عنها انحرافا وتدميرا وتخريبا في بلاد الله وعباده الآمنين؟
1048 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع