بدري نوئيل يوسف ـ السويد
في احدى الامسيات كنت احتل اريكة في غرفة الجلوس اشاهد التلفزيون وقفت بقربي تحمل دفتر ذكرياتي .
قالت لي : جدي لقد وعدتني ان تحكي لي كل اسبوع ذكرى من ايام زمان ، ولكنك نسيت ، خذ هذا دفتر ذكرياتك .
قلت لها : لن انسى ولكني مشغول بمشاهدة التلفزيون يعرض مشاهد من تدمير اثار الحضر .
قالت لي : لم اسمع عن اثار الحضر ولا اعرف عنها اي شيء .
قلت لها : لأنك ولدت في السويد فلا تعرفين عن هذه المدينة العراقية ، وقد كتبت في دفتري بعض الذكريات عن مملكة الحضر اجلسي بجانبي واسمعي حكاية هذا اليوم فقد كان والدي احد العاملين في هذه المدينة .
اخذتُ الدفتر منها وبدأت اقلبُ صفحاته وأنفض غبار السنين عن أوراقي القديمة التي أصبحت مصفرة وبالية. توقفت عند احد صفحاته وبدأت اقرأها بصوت خافت .
قالت : جدي .. ما هذه الصفحة الصفراء القديمة البالية التي تقرأها .
قلت :هذه الورقة تعود لعام 1965 اسمعي يا حفيدتي كان يا مكان في قديم الزمان وسالف العصر الاوان ، كان هناك مدينة تسمى الحضر ، مدينة صحراوية تتلألأ تحت أشعة شمس كأنها لا تغيب أبدا ، تلتف الرمال حولها ، مدينة تستنشق عبير الصحراء فبدت كثبانها أكثر تباعدا وأشد روعة وجمالا ، ما أروع مشهد المدينة بمعابدها الشامخة وهي تتوسد ضلع الصحراء ، تطل بوجهها المشرق البهي على بادية الجزيرة الغربية ، إطلالها لبست ثوب الحياة الأبدية ، شيدت المدينة في بداية القرن الثاني قبل الميلاد ، ورد اسمها في عدد من الكتابات الارامية المكتشفة في الحضر فهي مدينة الملك سنطرق وسميت مدينة الشمس ، ابراجها ترصد العدو قبل وصوله اليها مشيدة فوق سور يحيطها ، تبرز فيه دقة الاتقان في فن البناء والهندسة وتجد في المدينة نقوش منحوتة وفسيفساء وعملات معدنية وتماثيل ، وشعار المدينة الصقر ، يحكمها سلالة من الملوك ، و( شمش) الإله الأول في مدينة الحضر وكبير آلهتهم ، وقد شُيد له أكبر المعابد .
تقوم الان بعض الجماعات المسلحة بالتعدي على الإرث الحضاري وهذا يدل عدم فهم التاريخ ، وتدمير هذه الآثار التي لا تقدر بثمن خسارة فادحة ومأساة ثقافية حقيقية ، والمباني الأثرية التاريخية تحمل قيماً فنية وجمالية وتاريخية ، والجهات المختصة كانت تقوم بالترميم من أجل حماية المبنى الأثري من الانهيار أو التلف وبالإضافة إلى إصلاح ما تلف من المقتنيات الفنية والتماثيل .
سأروي لكِ كيف كانت تقام صيانة وترميم هذه الاثار ، لقد عُرف الحرفيون الموصليون بالإبداع بجميع اعمالهم وفي كافة المجالات وخاصة معماريها الماهرين ، ففي ستينات العقد الماضي وكل خمسة عشرة يوم ،كان عدد من النقارين والبناءين الموصليين ينهون اجازة لمدة ثلاثة ايام ويجتمعون عصرا في ساحة الساعة في مدينة الموصل لكي تقلهم سيارة تابعة لدائرة الآثار والتراث الى مدينة الحضر للقيام بإعمال صيانة وترميم الأبنية والمرافق المكتشفة ، واستمر الحال لسنوات عدة ، وبإشراف بهنام ابو الصوف عالم الاثار وكان اشهر النقارين من مسيحيو الموصل ، وقد برع في هذه المهنة عدد من النقارين والبناءين (منهم والدي نوئيل يوسف وأصدقائه خضر ونعمان وغانم اولاد عبادة ، وعبد الاحد ساعور ، والأخوة فرج و كامل صوفيا ، وخضر الاكزير، وأيوب رحيمو ، وتوفيق الدهين ، وعبد الاحد الدباغ ، وآخرين لم ادون اسمائهم) يمتلكون مهارة يدوية وخبرة فنية .
قالت لي : تقصد هم الذين اعادوا صيانة اثار الحضر ونقشوا بعرقهم وتعبهم كل حجر اعادوها لمكانها .
قلت بجدية وثقة :كانوا حرفيون يعرفون كل حجر وكل زاوية من مدينة الحضر ، وخبراء في اعادة البناء وتصليح التماثيل المكسورة التي كانت من اختصاص النقار او النحات خضر عبادة ، فكان يقوم بإصلاح التمثال او ينحت مشابه للمكسور ، حيث قضوا سنوات بعدين عن عوائلهم لإعادة الصيانة والأعمار لمملكة الحضر ، يقيمون في غرف بسيطة يخدمون انفسهم متحملين هبوب الرياح الشديدة الحارة المحملة بالرمال ، وارض ساخنة ملتهبة كأنها جوف فرن متقد ، لا ينبت من جوفها زرع ولا يتفجر من آبارها ماء و يحلق في سمائها طائر واحد هو الصقر ، تنقل لهم المياه بسيارات حوضية ، كانت نسمات السّعادة تهتزّ في قلوبهم كل صباح وهم يبدؤون عملهم ، عندما يجدون قطعة اثرية او حجرا تعاد لمحلها ، او عند تصليح قوس من اقواس المعابد وإعادة بناءه وتكلل جهودهم بالنجاح ترتسم علامات الفرح على محياهم وتغمرهم سعادة عارمة ، ويمتلئ كيانهم فرحا فريدا لم يعرفونه من قبل ، وفيض من السعادة لا يوصف .
قالت : وماذا تقول عن آثار مدينة الحضر .
قلت بجدية وانفعال: أين أنت يا مدينة الشمس (الحضر) بين الأمس واليوم ؟ عندما كان البناءون يحتضنون الاحجار على صدورهم ويصعدون السلالم الخشبية لإعادة كل حجرة محلها ، وكيف أمسى حالك اليوم يا مملكة الحضر وأنت تئنين من شدة آلامك وتنزفين دماً من عروقك ، اين انتم يا نقارين الحجر عندما استطعتم نقر كل حجر مفقودة لتعيدون تراث المدينة وصيانتها ، وتقولون للعالم ان في العراق تراث وإبداع وفن وثقافة وحضارة عمرها آلاف السنين.
غلبها النعاس فألقت برأسها على كتفي ، طويت دفتري وقلت لها سنكمل ذكريات الحضر في الاسبوع القادم
3664 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع