تنحي الولايات المتحدة جانبًا سيكون ثمنه باهظًا

                                                 

                               كوندوليزا رايس

مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وبينما كان العالم لا يزال يترنح، شرعت الولايات المتحدة في بناء مؤسسة جديدة تُعنى بالسلام والرخاء. وكانت الأعمدة الثلاثة الرئيسية التي ارتكزت عليها تلك الاستراتيجية هي: القوة العسكرية الأميركية، ودعم تطلعات الشعوب الحرة، والإيمان بأن الأسواق الحرة المدعومة بالتجارة الحرة سوف تزيد رخاء الجميع. ونجح هذا النظام العالمي الجديد في تحقيق أهدافه إلى حد بعيد.

وبعد خمسة عقود أبدت فيها الولايات المتحدة التزاما بتلك المفاهيم، انتهت الحرب الباردة، وانهار الاتحاد السوفياتي، وأدى ذلك إلى زيادة عدد الشعوب الحرة، والأنظمة الاقتصادية الحرة، وانتشال الملايين من الفقر، وإيجاد حلفاء جدد في مجال الدفاع عن الحرية.
اليوم رضخ هذا النظام لضغوط نتيجة لتمدد تنظيم داعش المتطرف، وتهديد روسيا للسلام والاستقرار في أوروبا، واتساع النفوذ الإيراني الذي بات يهدد الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، مما أدى إلى زيادة التحديات.
هناك أيضا تأثير صعود الصين، الذي أوجد مخاطر من نوع مختلف في منطقة آسيا والمحيط الهادي وما بعدها؛ فتنامي الاقتصاد الصيني على أساس من الانفتاح والعدالة من شأنه، بكل تأكيد، دعم اقتصاد العالم، وبالتبعية دعم الاقتصاد الأميركي. كان هذا هو الأمل الذي شجع على اتخاذ قرار يمنح الصين عضوية منظمة التجارة العالمية عام 2001، مما أسهم في دمجها في الاقتصاد العالمي المتشابك ودفعها نحو المزيد من الانفتاح الاقتصادي.
مع ذلك، تلاشى هذا الأمل اليوم مع التوجه الجديد للصين في آسيا؛ فعلى الرغم من زيادة الترابط، والتبادل الاقتصادي في المنطقة، ينظر حلفاؤنا إلى زيادة النشاط والقوة العسكرية لبكين بقلق. فمن طوكيو إلى مانيلا، ينتظر أصدقاؤنا وعليهم أمارات التوتر مؤشرات تدل على عزم الولايات المتحدة البقاء كقوة مسيطرة على منطقة المحيط الهادي.
للأسف، تتزايد التساؤلات المطروحة حول مدى التزام الولايات المتحدة الأميركية بالإبقاء على النظام العالمي، الذي ساعدنا على إقامته، فكلمة «فك الارتباط» باتت تستخدم اليوم عند مناقشة دور الولايات المتحدة في العالم في الوقت الحاضر أكثر من أي وقت مضي. وينبغي فهم مطلب الرئيس أوباما بمنحه صلاحية تنمية التجارة، ورغبته في التفاوض بشأن اتفاقيات جديدة في آسيا وأوروبا في هذا السياق.
ويعد منح الصلاحية لتنمية التجارة وسيلة مهمة في إدارة الدبلوماسية الأميركية، فهي لا تجرد الكونغرس من دوره التفاوضي في اتفاقيات التجارة، بل تسمح للكونغرس صراحة بأن يضع الأسس الواجب مراعاتها خلال المفاوضات، وأن يؤدي واجباته الدستورية بالتصويت على الاتفاقات التي جرى التفاوض بشأنها. وقد استخدم الكونغرس تلك الصلاحية لتحديد وجهة الاتفاقيات التجارية طوال عقود ماضية، والتي من دونها ما كان لتلك الاتفاقيات أن تبرم. لن توقع الأطراف الأخرى المشاركة في التفاوض على أي اتفاقيات مع الولايات المتحدة، إذا خضعت تلك الاتفاقيات للمراجعة والتعديل كلمة بكلمة بعد توقيعها بالفعل، وأثناء عملية التصديق عليها.
لا تتعلق القضية هنا بثقتنا بمن هم داخل البيض الأبيض أيا كانوا؛ فعلى مدى 40 عاما، حققت صلاحية تنمية التجارة، والتي تسمى أيضا صلاحية التفاوض على الاتفاقيات التجارية الممنوحة للرئيس، توازنا بين دوري الجهاز التنفيذي والجهاز التشريعي. وعندما ضعفت الصلاحية، خلال الفترة ما بين عامي 1995 و2001 ومنذ عام 2007 حتى الآن، كان على الولايات المتحدة أن تتنحى جانبا. وخلال تلك الفترة، تمت مناقشة أكثر من 100 اتفاقية تجارية من دون مشاركتنا، ولا يمكن أن نحتمل استمرار هذا الوضع، خاصة الآن.
وأدرك قادة دول ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذين وضعوا بعبقرية نظاما عالميا جديدا من أجل دعم الأسواق الحرة، أنه إما أن نحدد نحن قواعد اللعبة، أو سيحددها غيرنا. وقد تملكهم الخوف من النهج المبالغ في الحماية والانغلاق الذي ساد خلال فترة الثلاثينات من القرن الماضي، وتسبب في ما عرف بالكساد الكبير، مما أدى في النهاية لاندلاع الحرب العالمية الثانية. وقد أدركوا حينها أن التجارة الحرة هي أحد الأعمدة الأساسية للحرية الاقتصادية، والرخاء، والسلام.
لقد كانوا على حق آنذاك، وهم على حق اليوم أيضا؛ فالولايات المتحدة تحتاج إلى برنامج تجاري نشط لتعزيز اقتصادها داخل إطار النمو الاقتصادي العالمي. ويعد هذا الأمر نتيجة مهمة في حد ذاته، في ضوء القلق المتنامي حول صحة الاقتصاد الأميركي؛ إلا أن الأمر الأهم هنا هو ما تكشفه صلاحية تنمية التجارة عن دور أميركا في العالم. سوف يرى حلفاؤنا فشل تجديد تلك الصلاحية على أنه دليل آخر على أننا قد فقدنا الاهتمام بالحفاظ على النظام العالمي؛ وهم يشعرون بالقلق بالفعل من استعداد آخرين، خاصة الصين، لملء هذا الفراغ.
التجارة الحرة ليست بديلا عن القوة العسكرية، أو عن منح الدول، التي ما زالت تبحث عن الحرية، القدرة على التعبير؛ فصلاحية تنمية التجارة، والاتفاقيات التجارية الجديدة، وحدها لن تنجح في التعامل مع ما نواجهه من تحديات عالمية، لكن التجارة تعد عنصرًا مهمًا من عناصر استراتيجية آمنت منذ زمن بعيد بفكرة أن المستقبل هو فقط للشعوب وللأسواق الحرة. ولهذا أدعو الكونغرس إلى تجديد صلاحية تنمية التجارة الحرة؛ فلا يمكن للولايات المتحدة تحمل أن تتنحى جانبا، وتترك المجال لمن لا يؤمنون بقيمنا، ولا يشاركوننا اهتماماتنا. وسوف يكون الثمن، الذي تدفعه الأجيال القادمة نتيجة هذا الاختيار، باهظا.

* وزيرة خارجية الولايات المتحدة ما بين عامي 2005 و2009
* خدمة «واشنطن بوست»

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1151 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع