الدكتور مهند العزاوي *
اضحت حرب المفردات والمصطلحات عالم ينفرد بذاته , تارة لاغراض المنهجية الوظيفية والتنمية المستدامة, وتارة اخرى للتلاعب بالعبارات ذات الاغراض السياسية ضمن علم الدعاية "الخطاب المزدوج ",
وغالبا ما نجد استخدام مصطلح الاستراتيجية او الاستراتيجي , وتردف بكلمة محلل او باحث او خبير .. الخ , ولاتكمن المشكلة بالتسمية او الوصف بل تكمن بالفهم لهذا التوصيف , وخصوصا في عمل وسائل الاعلام العتيدة والناشئة حيث يتداول العاملين فيها هذا المصطلح دون الدخول في تفاصيله او القيام بتقييم منهجي للمقدرة الاستراتيجية للضيوف الفاعلين في مجال التحليل , وينعكس الامر على المستوى الوظيفي والمهني وكثيرا ما يستخدم المصطلح كنوع من انواع التلميع والتنافس والتماييز , وربما دون الاخذ بمفرداته الفاعلة ومناهجه المتعددة وابداعات الاخرين في هذا المجال , خصوصا ان هذا الميدان الاستراتيجي الحيوي مقتبس من المنهجية العسكرية حيث اصل وتاريخ هذه المصطلح يعود للخطط والادارات العسكرية الحربية , وفقا للمصادر والمراجع التي تؤكد ذلك , وبلا شك ان المؤسسة العسكرية ودوائرها الساندة الفكرية والمعرفية والعلمية صروحا للفكر والمنهجية العلمية بغض النظر عن الشيطنة الاعلامية للعسكر ودورهم في بناء المجتمعات والدول .
فلسفة الاستراتيجية
اصبح من الضروري التعرف على الاستراتيجية بشكلها المبسط دون الدخول بمفاهيم ومصطلحات تعريفها المتعددة والمختلفة ,التي لم تنتج حتى الان تعريف منهجي موحد نظرا لاختلاف التخصص الاستراتيجي المستخدم واختلاف الكتاب والمنظرين لفلسفة الاستراتيجية , والاستراتيجية بشكل مبسط هي منهج عمل منظم شخصي كون الفرد يشكل الذرة الاساسية في المسرح الاسترايتجي , لانه المستخدم والمخطط والمستفيد , وهو الذرة الاساسية في كيمياء العمل مهما كان نوعه , ومن يقوم بالتخطيط او الادارة او التقييم او التقويم الاستراتيجي هو الفرد ذاته سواء كان شخصي التكليف او جمعي التوافق كمنظومة , وبكل بساطة يمكن فهم الاستراتيجية على انها ( المقدرة المتقدمة الحرفية على تطويع الموارد المتيسرة والمستحصلة, لتحقيق الاهداف المنضوية تحت الغايات الاستراتيجية , بوقت معلوم يحقق توزيع منتظم للموارد ترصد لتحقيق الاهداف التخصصية, بما يضمن تطبيق الاستراتيجية الشاملة /العليا للدولة , مع تحديد المسؤولية والصلاحية حسب هرمها التسلسلي ودرجة التماس بين الفرد والهدف وظيفيا او مهنيا) ولعل هناك العديد من المنهجيات لتحليل الاستراتيجي على مستويات الفرد ,المؤسسة ,الدولة, مافوق الدولة , ولكن لفت نظري منهجية ميشيل كروزية[1] واحببت مناقشتها بشكل مختصر مفيد بما يتوائم مع واقعنا الحالي .
نظرية كروزيه
قدم ميشيل كروزيه التحليل الإستراتيجي وفقا لمدرسته من أجل دراسة عناصر الواقع وصنف البيئة الى : بيئة مستقرة – ضخمة – نصف مستمرة - منفصلة – غير متوقعة , وهو تصنيف سليم للغاية , و يذهب كروزيه في التحليل الى تجاوز النظريات التي كانت تركزعلى ضرورة الاهتمام بالعوامل التكنولوجية ، والنفسية، فذكر كروزيه النسق الذي يشكله الأفراد واقعيا ، والحرية النسبية ، والعقلانية المحدودة , ومن وجهة نظري كمحلل اعتقد من الجزئية أن تنظر إلى الفاعل فرد فحسب كون الفاعل من منظوره اجتماعي , فكل فرد يرسم اهدافه واسماها (رهاناته الخاصة) ، ويملك نسبة من السلطة من أجل الوصول إلى أهدافه , او يبحث عن وسائل الوصول للسلطة لاجل تحقيقها , وتعتمد نظرية كروزيه على الظاهرة والمجتمع المتوقف , وكذلك الفاعل والنسق وإن فحوى نظريته هوان المجتمع مجموعة هندسية تحتاج الى مفاعيل ونسق تدخل السلطة فيه كعامل اساسي ليس السلطة كدولة فحسب , بل السلطة التي يسعى لها الفرد ايضا , ومن خلال التجارب اثبت الفرد قطبيته في مسك السلطة على المستوى الشخصي والوظيفي وحتى السياسي , بما لايتسق مع تحليله بالرغم من وجود العكس ايضا وقد عرف السلطة " روبرت دال Robert Dahl على أنها " ( الطاقة التي يستعملها أي شخص للحصول على شيء ما من آخر لم يكن ليقدمه لولا ذلك التدخل) , ويمكننا وصفها بشكل مبسط انها الصلاحيات الممنوحة او المكتسبة التي تمكن الفرد او الدولة بتحقيق اهدافها .
يعتمد كروزيه في التحليل على مجموعة من المفاهيم المترابطة فيما بينها , وعندما نجسدها على بيئة التحليل الاستراتيجي , فنجد ان مسرح التحليل قد توسع خصوصا في قنواته التخصصية التي اتسعت بشكل كبير في ظل الازمات والاخفاق والاهمال وصناعة الاحداث القلقة , وقد اعتمد كروزيه في تحليله على العناصر التالية
1الاهداف ( الرهانات)
2الفاعل
3الأرصدة
4السلطة
منطقة اللايقين
يعتبر نموذج التحليل الاستراتيجي لـ " كروزيه " و " فريدبيرغ " من بين المنظورات الأساسية لتحليل " الفعل الاجتماعي " في مجال علم الاجتماع وفي تحليل السلوك التنظيمي والتغير التنظيمي وعلاقات السيطرة والنفوذ والصراع داخل المجموعات , وبالرغم من ان نظريته مبنية من مدرسة حديثة تعود لعقود مضت , الا ان اليوم اصبحت متناغمة مع الواقع السياسي الحالي الذي اصبحت السلطة مباحة للافراد كمجموعات دينية او طائفية او قومية ونسفت طوعيا النسق الدولي والقانون , وبالرغم من ذهاب كروزية الى اهمية الفرد والنسق والرهانات والسلطة, الا ان المتغيرات الاجتماعية والسياسية التي خلق بيئتها الفاعلين الدوليين قد اوجد مناخ مشابه ولكنه مشوه يجزا السلطة ويستاثر بها مجموعات وافراد , وهذا ماتكلم عنه كروزيه بمنطقة اللايقين او الارتياب .
المدرسة القلقة
يرى الكاتب ان السلطة التي تتمحور حولها نظرية كروزيه في التحليل تحاكي واقع سابق تتصارع في ايديولجيات مختلفة كانت حاكمة اينذاك , واليوم مع اختلاف الايديولوجيات التي تنتجها مصانع الفكر ضمن حرب العقائد والافكار , فان عناصر التحليل الاستراتيجي اتسعت وتطورت لتشمل مفاعيل مختلفة لاتقف حد الفاعل والظاهرة والمجتمع والنسق , بل تتخطى ذلك الى اللامعقول واسميتها في التحليل (المدرسة القلقة) التي تعتمد الشك المسؤول والتعمق في في قراءة الوقائع والاحداث ومفردات وعناصر البيئة الخارجية والداخلية, التي تعطي بدروها خيارات قلقة وتطرح اسئلة حرجة وتحتاج الى اجوبة صعبة لتجد واقع تحليل قلق يتسم بالجدية.
يعتقد الكاتب ان السلطة وسيله تحقق الغايات ان كان المقصود الفرد , اما بالنسبة للدول ورسم السياسات الاستراتيجية فهي وسيللة مستدامة لتحقيق الغايات الاستراتيجية و التي تتعلق بمفاهيم التوازن والردع والقوة والتاثير وتسخير الموارد المتاحة لتحقيق الاهداف الاستراتيجية المنبثقة من الغايات التي ترسمها الدولة , ويبقى هامش المناروة واسع هنا على عكس الافراد حيث يكون هامش المناورة محدود مرتبط بالوظيفة او المال كما اسماها كروزيه السلطة, الفاعل, الرهانات , الارصدة , وتبقى المتغيرات الجيوسياسية التي تنعكس بشكل مباشر على اساسيات التحليل الفردي والمؤسسي والحكومي والدولي الاستراتيجي تشكل برمتها عناصر التحليل الاستراتيجي الشامل الذي ينبغي من خلاله وضع اسس معرفية لمنهجية التحليل الشامل وليس الجزئي , خصوصا ان التحليل الاستراتيجي التخصصي(الجزئي) ضرورة مهنية بحتة ولكن الشمولية تعطي خيارات اكثر دقة وخصوصا الوقاية الاستراتيجية .
*خبير استراتيجي
13 حزيران 2015
[1] . عالم احتماع ولد 1922في فرنسا صاحب منهج التحليل الاستراتيجي ولديه مؤلفات متعددة في علم الاجتماع
4583 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع