احسان الفقيه
"مصر ليست أمي... دي مرات أبويا"
هو عنوان كتاب ساخر لـ أسامة غريب عن سلبيات المجتمع والنظام الحاكم.
صنّف المؤلّف هذا الكتاب في عهد المخلوع حسني مبارك، ولم يدر أن كثيرا من المصريين سوف يطرحون هذا السؤال بعد انسداد الآفاق: هل مصر هي أمنا، أم أصبحت بمثابة زوجة الأب القاسية غالبا؟
*بعد مرور عامين على النكبة المصرية والقضاء على الحلم المصري، لا يزال طاغية مصر وقائد الانقلاب يستنسخ منهج فرعون موسى كأساس في إدارة الدولة العريقة التي أضحت مسرحا للصراعات والاضطرابات، ضمن نكبة هي الأعظم والأشد لدى المسلمين في القرن الـ 21.
{ذروني أقتل موسى وليدعُ ربه إني أخاف أن يُبدّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد}.
هو ذاته التفويض في قتل المعارضين المطالبين بإعلاء قيمة الحق، هي ذاتها تهمة الإفساد التي يلحقها الطغاة بكل من ينادي بالإصلاح، وهي كذلك اللهجة المسرحية في التعامل مع الجماهير، وإظهار الحرص على أمنها وسلامتها من أعداء وهميين.
{ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}.
*وهو الكذب والتدليس ذاته الذي يمارسه السيسي لإقناع شعبه بصحة مسلكه، وأنه اختار لهم ما يرى فيه صالحهم، وأنه حماهم من حكم الإخوان الذي كان سيضع المصريين في قلب الجحيم، كل ذلك وهو يعلم يقينا أنه كاذب في دعواه، وأنه كان أراد تحقيق مجد شخصي، توافق مع لعبة دنيئة تولّى كبرها في الداخل والخارج من أرَّقتهم اليقظة المصرية واتجاهها للعودة إلى ريادتها مرة أخرى.
*هو الأسلوب الُمتّبع في الاستخفاف بالشعوب لتشييد الملك بسوق الأتباع دون وعي.
ولعمر الله لم يكن أعداء الأمة يطمعون في أن يفعلوا بمصر ما فعله ذلك الطاغية، الذي تمكّن من تفتيت المجتمع المصري والقضاء على لحمته الداخلية.
وطالما أكدت الأقلام أنَّ مصر عصية على اندلاع اقتتال داخلي وحرب أهلية، لأن تركيبتها السكانية لم تقم على أساس عرقي، لكنّ فرعون العصر قد استطاع أن يقود مصر في مسار يؤدي إلى ترجمة تلك الفكرة المفزعة.
*زُرتُ مصر عدة مرات، واقتربتُ كثيرا من شعبها، كانت مصر التي يدعوك فيها الفلاح الفقير لأن تحتسي الشاي جالسا على الحصير في بيته.
مصر التي عرفتها يأكل الجار في طبق جاره، وتجتمع نسوة الحي معا للخبز في الأفران البلدية...
مصر التي رأيتُها يحمي شبان الحي فتياته، والويل لمن يقترب حتى من امرأة هي ضيفة على بيت من بيوت الحيّ...
مصر التي أحببتُها، يقطع الرجل مئات الكيلومترات مسافرا من أجل واجب العزاء...
أضطرُّ للكف عن إبراز مزيد من الصور رغما عني، فلو أطلقتُ العنان لِما يعتملُ في نفسي لملّتني الكلمات ذاتها.
فأين ذهب زعيم الانقلاب بِمصرنا التي نُحب؟
استخلص لنفسه ظهيرا من الشعب يُشرعن بها قراراته وممارساته الدموية، لماذا؟ لأنها إرادة ذلك الشعب، ومن أجل ذلك الشعب، وأما المعارضون فما بين قبر وسجن ومنفى وموت بطيء..
لا تعترض، لا تُندّد، لا تحتج، إنك إذا من جماعة الإخوان المسلمين المصنفة على أنها جماعة إرهابية.
إياك أن تختلف مع جارك أو تتشاجر معه، إنه يعرف أنك تكره الطاغية، سيُبلّغ عن الجهات الأمنية، ستذهب وراء الشمس لأنك (إخوانجي).
*حدثني عن إنجازات السيسي ومؤسساته على مدى عامين منذ الانقلاب.
نعم الجيش في رغد من العيش، ينعُمُ في خيرات البلاد، والرواتب والمعاشات في زيادة مستمرة، فهم سنده وعونه وعصبته، غير أنه لم ينسَ أن يحل بهم الأزمات الداخلية، فتركوا الثغور واتجهوا لمواجهة الشعب، لا تقلقوا، فالحدود مؤمّنة، والاحتلال الإسرائيلي حليف وصديق، فلم الخوف؟
*الشرطة، ونعم الشرطة، عادت لها هيبتها وسطوتها، وصارت ترتعد لهم الفرائص من جديد، ورجعت إليهم بلدهم، إياك أن ترفع عينك في عيني (الباشا)، إياك أن تتحدث مطالبا بتطبيق القانون، فهو قانون واحد: قانون الغاب، قوة مقابل ضعف، وسطوة مقابل عجز.
*من قتل النائب العام؟
إنهم الإخوان الإرهابيون.
كيف؟
لا تسل فتارة يقولون إنه قُتل بالتفجير، وتارة يقولون إنه قد خرج من السيارة ثم دهسته سيارة أخرى.
بينما يصرح سائق النائب العام في حوار مع الوطن بأنه خرج على قدميه من السيارة، وطلب منه حمله إلى المركز الطبي العالمي، وأخذوه إلى مستشفى أقرب، ولم يذكر أي شيء عن حادثة الدهس.
إن هذا التضارب في الروايات، وما أعقبه من حظر النشر في التحقيقات حول الحادث، ليُشير بقوة إلى أن نظام السيسي هو المتورط في مقتل النائب العام.
*اتهموني كما شئتم بأنني أسيرة نظرية المؤامرة كالعادة، لكن أخبروني قبلها عن كمية المتفجرات التي دخلت هذا المحيط الحرج، وأخبروني عن حالة الترهل الأمني في حماية شخصية بحجم النائب العام؟!
فالسيارة المستخدمة في التفجير وقفت في صفّ ثان في شارع مصطفى مختار، بحسب التحقيقات، فأين الانتشار الأمني في الشوارع المحيطة بمنزل النائب العام؟
وبحسب ما طالعت في الصحف المصرية، فالحراسة لم تتخذ أي إجراءات للتمويه بتغيير خط السير، فكيف يحدث ذلك؟
الذي يظهر أن السيسي يتخلص من شركاء الانقلاب الدموي، فالنائب العام القتيل هو من أصدر أمرا بفض اعتصامي رابعة والنهضة بناء على طلب من وزارة الداخلية.
في البداية، أقال وزير الداخلية الدموي محمد إبراهيم شريكه الأكبر، كما تم تسريح عدد كبير من ضباط المخابرات.
وربما جاء التوقيت مع ذكرى 30 يونيو، للتغطية على فشل السيسي، وتبرير مزيد من القمع، والترويج أمام الغرب بأن النظام يحارب الإرهاب، وهو ما رآه عضو مجلس الشعب المصري سابقا عادل راشد خلال برنامج ما وراء الخبر على الجزيرة.
*وعلى الفور استغلّ النظام الأمني القمعي ذلك الحدث في التصفية الجسدية لقيادات الإخوان، في واقعة 6 أكتوبر، والتي راح ضحيتها 13 شخصا في مسرحية هزلية جديدة للشرطة المصرية.
الجثث ملطخة أصابع أصحابها بحبر البصمات، وهو ما يعني أنه ألقي القبض عليهم دون مقاومة، ثم تمت تصفيتهم.
شهود العيان في المنطقة نفوا سماع إطلاق نار في الوقت الذي ادعت فيه الجهات الأمنية أنهم قتلوا بعد أن بدأوا إطلاق النار على الأمن.
قالوا إنهم كانوا يجهزون لعمليات إرهابية، وضبط بحوزتهم ثلاث بنادق آلية، فهل هذا العدد الضئيل من الأسلحة يتفق مع مهمات من هذا النوع؟ بالإضافة إلى تساؤل آخر: إذا كان من يحملون السلاح -وهم قطعا ثلاثة أشخاص- قتلوا أثناء تبادل إطلاق النار، فكيف قتل الآخرون، هل كانوا يقذفون الشرطة بالحجارة؟
كما أن صور المعاينات أظهرت الشقة في صورة طبيعية، ليس بها آثار إطلاق نار أو فوضى.
كلها أسئلة ستبقى هائمة، لا تمثل الإجابة عليها شيئا ذي بال لدى هذا النظام المستبد،
الذي لن يعبأ بالرد عليها.
القضاء وما أدراك ما القضاء، شامخ كعادته، من لدن يوسف عليه السلام، نعم ألم تر أن يوسف قد ظهرت براءته بشهادة شاهد من أهل امرأة العزيز؟
يا عزيزي، البراءة وحدها لا تكفي، هناك قواعد أخرى للعبة، لا بد أن تكون مدانا...كيف و...؟ لا مزيد من الأسئلة لا بد أن تكون مدانا {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين}.
يحدثني إخواني المصريون الذين يراسلونني، وهم كثر، أن القضاء يتبع سياسة القمع والابتزاز في وقت واحد.
فمن يتم القبض عليه لا يخرج منها سالما ولو أجمعت البشرية على براءته، فأقل ما يناله أن يدفع مبالغ طائلة من 50 ألفا فما أعلى، بالإضافة إلى حكم بالسجن مع إيقاف التنفيذ، فهذه هي صورة البراءة في القضاء المصري.
اعتقل معوقا مريضا بشلل الأطفال ولا يقوى على السير بتهمة حمل السلاح ومواجهة السلطات..
اعتقل فتاة رقيقة، لكن إياك أن تغتر بهذه النعومة، فقد ضبطت وبحوزتها (آر بي جيه)..
اعتقل صبيا صغيرا لوح بإشارة رابعة، لا ترحمه، هو مشروع إرهابي، دعه يتربى في السجون على حب مصر.
*هو قضاء جواد سخي، يوزع أحكام الإعدام بالجملة، وبعد أن يصدر أحكامه الجائرة التي يبدأها ويختمها بكلمات عن نزاهته وتقواه لله، وأنه مستريح الضمير {ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام}.
*الإعلام وما أدراك ما الإعلام؟ هو إعلام مسيلمة كما أُطلقُ عليه دائما، يسير على خطاه في اتّباع (اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس)، وقد كان.
هل نتحدث عن التدليس والكذب وأخونة ألمانيا وأوباما، وأسطورة الأسطول الأمريكي، وإنجازات السيسي العظيمة التي لا يعرف المصريون كنهُها؟
أم عن تسويغ الدماء وتبرير القمع؟
أم عن تجييش وتعبئة المجتمع للوقوف في وجه الإخوان، ذلك المسمى الذي اتسع ليشمل كل معارض؟
أم عن الهجوم المستمر على غزة، والمطالبة بإغلاق المعابر؟
أم عن المناداة بالقضاء نهائيا على جماعة الإخوان أعداء الوطن؟
*سيناء ما أدراك ما سيناء، تركوا أهلها مهمشين بلا تنمية، بلا إعمار، بلا محاولة لضم حقيقي لهذا الجزء الجميل من أرض مصر بأهله وكنوزه، ثم اتبعوا أساليب القمع مع سكانها بحجة مطاردة الإرهاب، فأُهين أهلها الذين يعيشون بروح القبيلة أُباة لا يرضخون لمحاولات الإذلال.
ثم يسألون عن الإرهاب في سيناء، أنتم من أوجدتموه، قمعكم هو من أوجد الحاضنة الشعبية لكل الجماعات المسلحة؟ فما كان هؤلاء لينشطوا دون وجود حاضنة شعبية لهم.
هم الذين أشعلوا سيناء، بالحلول الأمنية القمعية التي اتبعوها كسياسة ثابتة لفرض هيمنة النظام.
والآن لا ندري هل سيؤول الأمر لأن تتخلى مصر عن سيناء ويتم تهجير الفلسطينيين إليها كأحد الأطروحات القديمة؟ أم أن هذه البقعة ستعود إلى حضن مصر؟
*بعد عامين من الانقلاب، هل استطاع الطاغية تحقيق الأمن والاستقرار بعد إقصاء الإخوان؟
هل تخلص المواطن البسيط من الفقر المدقع، وهل تمكّن من تحصيل لقمة العيش بسهولة؟
هل هناك ثمة تقدم في الجوانب التنموية والاقتصادية والتعليمية؟
لا شيء سوى الدماء والسجون، لا أحد يتكلم بشأن أحوال البلد، فجهود الفرعون كلها مُنصبّة في القضاء على الإرهاب، وليذهب الشعب إلى الجحيم.
*رغم معرفتي السابقة بأهل مصر من خلال زياراتي، ومن خلال متابعتي الدقيقة للشأن المصري، إلا أنني لم أكتشف جهلي بأحوالهم، إلا عندما اعتزمتُ قراءة المشهد لكتابة هذا المقال، فأبحرت في الصحف والمواقع المصرية، واتصلتُ بإخواني النشطاء من أهل مصر، محاولة الوقوف على ما يجري في الساحة المصرية، وأجزم أنني لم أصل إلى جزء من الحقيقة، في ظل إيقاع الحياة الصاخب في ذلك البلد الذي نُحبّه ويعنينا أمر سلامته وأمن أهله.
لكن يبقى هنالك الأمل دائما قائما...
*السيسي في ظني يلفظ أنفاسه الأخيرة، فأمريكا جزمت بأنه قد ورّطها، وأنه لا بد من حلول سياسية في مصر.
دول الخليج تبحث في البديل لهذا السيسي...
هناك صراع أجنحة في مؤسسة النظام...
شريحة كبيرة من كتلة 30 يونيو تحولوا إلى معارضين..
البسطاء يبحثون عن مخرج من تلك الأزمات الطاحنة، وأدركوا أن أسطورة السيسي المخلص محض خيال...
الوعي بدأ يتشكل في مصر من جديد، وقطاعات الشباب ناقمة...
الثورة لم تنتهِ في مصر، فهذه طبيعة الثورات التي تختلف عن الوقفات الاحتجاجية والمطالبات الفئوية التي تنتهي بانتهاء الدوافع.
فما حدث في مصر كانت ثورة، وطبيعة الثورات أنها تتعرض لمثل هذه المنعطفات، حيث تنجح، ثم تواجهها الثورة المضادة، وينتكس المسار الثوري ثم لا يلبث أن يتعافى.
1191 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع