بدري نوئيل يوسف ـ السويد
الجزء الثامن
في احد الايام دخلت للمقهى الشعبي الصغير وكان صديقي الشيخ الجليل يترقب وصولي ، بعد سلامي وجلوسي خلف طاولته شعرت أنه منزعجا ويكرر جملة (خليها على الله ) اربع مرات دون ان يتحدث ما السبب .
قلت له مستغربا :صديقي الشيخ ، هل تفكر بموضوع ما تتطلب منك تردد (خليها على الله ) عدة مرات ..؟
قال اسمع هذه الحكاية التي كنت بطلها مساء امس واليوم صباحا ، واعتقد لن تصدق ما تسمع .
قلت له باستغراب: ولماذا لا اصدق ما تقول فأنت شيخ جليل المقام محترم وقور .
اخذ نفسا عميقا من سيجارته وبدأ الشيخ بالحديث قائلا : في ليلة امس كنت بزيارة عائلة من اقربائي متوسطة الحال والتي تعتبر من عامة الشعب ، وكان الجميع منسجمون يتناقشون حوارات متنوعة بعضها ثقافي وبعضها الآخر اجتماعي وغيره فني ومشكلتهم الكبيرة مسلسلات شهر رمضان المبارك وجودتها ، ولن ينسوا موضوع الدجاج وأنفلونزا الطيور ، وكم ساعة يقطع الكهرباء في الصيف ، ولا ضير في شيء من السياسة ، ومن سيكون رئيس اقليم كردستان القادم ، وسبب انخفاض اسعار النفط ، وتحرير المدن من قبل المسلحين ، ومن سيكون رئيس للولايات الامريكية القادم وكل واحد من المتناقشين ضالع في العلوم السياسة والعسكرية ، وهذا حال العراقيين في ليالي رمضان المبارك على كهرباء المولدة التي تكفي للإنارة فقط واختفت الامسيات الرمضانية الجميلة .
الساعة تشير الى التاسعة مساء والحوار على اشده ومازالت الخطط السياسية والعسكرية والاقتصادية تناقش ، جاءت البنت الوسطى للعائلة تنزل الدرج قادمة من الطابق الثاني نحو غرفة جلوسنا تحمل طفلتها ذات السنتان تبكى بصوت عالي وتدور في البيت كالمجنونة من غرفه لغرفه ، ودموعها لا تتوقف مثل المطر تحرق خديها وقد نفشت شعر رأسها ، نهض زوجها وبدأ يدور حولها كالمجنون ، شاركتها الام بالبكاء دون ان تعرف سبب بكاء ابنتها ، وأسرع الاخ الكبير الى غرفته وعاد مسرعا يحمل بندقيته وفتح باب المنزل وخرج مسرعا للخارج كأنه يلاحق لص أو يبحث عن معتدي على العائلة ، والأخت الصغرى تضرب على فخذيها وتنوح ، ونهض الجد ينظر من النافذة للخارج والكل لا يعرف ماذا حدث وأنا جالس بينهم مثل الاطرش بالزفة ، لا اعرف مَنْ اسأل .
الكل صوب عيونه على البنت الوسطى الباكية وقلوبهم تدق وكاد قلب الجد يتوقف وخطر ببالي ان الطفلة التي بحضن امها فارقت الحياة ، وأخيراً نطقت ان حرارة طفلتها مترفعة اي تشعر انها مصابة بالحُمى .
هدأ حال الغرفة وعاد سلاح الاخ الى محله ، واقترح والدها اخذ الطفلة الى المستشفى واستمر النقاش أكثر من عشرين دقيقة كيف يعالجون الطفلة بعد فتره من النقاش قرر كل واحد قول ما بجعبته ، ووقع الاختيار على طبيب الحي القريب من المنزل وذهب الجميع الى منزل الطبيب عدا الجد الذي احترمني وبقى معي جالسا .
لم اسأله عن المشهد الفوضوي الباكي الثوري الغريب بعض الشيء الذي قام بأدائه افراد العائلة ، لكن سألته مستفسرا : هل هذا الطبيب الذي قصدوه اختصاص اطفال ويقدم مساعدة في منزله بهذه الساعة من الليل.
أجاب بهدوء وثقة : استاذ من يقدر يتكلم مع الاطباء في المستشفى ، هذا ابن المحلة مضمد (موظف صحي) ، ما شاء الله عليه احسن من عشرة اطباء اختصاصيين يفهم بكل الامراض خبرة سنين طويلة .
على كل حال ولا اريد اطيل الحديث بعد نصف ساعة تقريبا عاد الجميع مستبشرين بشفاء الطفلة ، بعدما شخَصَ المضمد مرضها أنها مصابة بالتهاب القصبات الرئوية ، وزرق لها حقنة وأعطاها شراب خافض للحرارة وآخر للالتهابات ، ودفع والدها خمسة وثلاثون الف دينار مقابل الفحص السريري وفحص الدم وثمن الدواء ، أما زرق الحقنة لم يأخذ ثمنه لأنهم جيران يعني على حساب المضمد .
اسأل نفسي هل الذي جرى هذه الليلة مع العائلة كان فيلما يصعب على المخرجين العالميين اخراجه ام من الخيال ، وما هذا العبقري المنتحل صفة الطبيب الذي يعالج الكبير والصغير ويفهم بكل الامراض . ودعتهم بعد ان رفعت يدي الى السماء طلبتُ من الله شفاء البنت الصغيرة والتي يمكن ان لا تكن حرارة جسمها مرتفعة ولا تحتاج لكل هذا العلاج ، على امل ان ازورهم في يوم العيد .
استأجرت سيارة أجرة (تاكسي) عائدا الى منزلي وفي الطريق سألت سائق السيارة عن المعالجين المنتحلين صفة طبيب
قلت له : هل تعرف من يعالج المرضى في المحلات والبيوت .
قال مبتسما : صدقني عمي الشيخ ، اعرف رجل مختص بعلاج الكسور والتواء العضلات يساوي الف طبيب جراح يسكن في المحلة (....) ، وهناك رجل اخر مختص لعلاج قوة الرجال . فأنت ايهما تريد .
قلت له : مجرد سؤال لا هذا ولا ذاك .
ضحك ملء شدقيه ورد عليّ وقال : الحمد الله جسمك سليم بدون كسور ، لا تخجل عمي ربما تسأل عن الثاني المختص بقوة الرجال ، ولا طبيب في المدينة يستطيع أن يقدم علاج مثله وصفاته مجربة .
ترددت قليلا بالسؤال خجلا لاني لا اعرف السائق وليس بيننا حوار سابق ، ثم سألته : ما المقصود من قوة الرجال .
ابتسم سائق السيارة وقال: عمي ما تحتاج لنقاش عرفت انك تريد الذهاب لهذا الرجل ، الجرعة الواحدة من الدواء الذي يوصفه تساوي ليلة عرس فعنده اعشاب مخلوطة وحبوب مستوردة وأدعية تعلقها على الصدر أو تشرب مائها او تضعها تحت الوسادة ، انه في المحلة (....) راجعه واستعمل علاجه وادعي لي كل ليلة بالخير .
قلت له : اشكرك لهذه المعلومات .
في منزلي ساورتني عدة افكار اين نحن من التطور العلمي ومن زراعة القلب والكلية والبحوث العلمية ، ولماذا لم يكن لدينا مركز للبحوث ، وكم جامعة موجودة في الاقليم تخرج سنويا مئات الشاب الجامعي ، وكم قناة تلفزيونية فضائية تقدم برامج علمية وصحية ، ومازال الشعب يلحق العلاج الشعبي والخرافات وشرب ماء ورقة مبللة .
في اليوم الثاني قررت ان اذهب لزيارة المضمد المنتحل صفة الطبيب الذي عالج الطفلة الصغيرة ، وأتظاهر انني مريض واعرف كيف يعالج انه فضول مني ، وصلت الى المحلة وسألت عن منزل المضمد ارشدتني لمنزله احدى نساء المحلة التي كانت واقفة عند باب منزلها ترش الماء فوق الرصيف ويظهر من قوة الماء ان في منزلها بئر وعليه مضخة .
وأنا بطريقي الى منزل المنتحل العبقري خطر ببالي ان اقول له اشعر بالدوار عدة مرات باليوم ويصيبني صداع .
وصلت لمنزل المنتحل ودخلت الى العيادة الطبيبة ، نراها غرفة مأخوذة من المنزل بابها واقع على الشارع تحوي على منضدة فحص وطاولة عليها جهاز تخطيط القلب وطاولة اخرى عليها ميكروسكوب وبعض القناني ودولاب يحوي على ادوية مختلفة ربما لا تجدها في الصيدليات الرسمية سلمت على المضمد المنتحل ورد عليّ السلام بحفاوة وترحيب
وأنا ارصد الغرفة واستغرب من ما فيها وأقول مع نفسي إما الرقابة شريكة ، أو لا تعلم ما يجري، أو خليها على الله ..!
سأل مستفسرا : ما سبب زيارتك لعيادتي يا عم .
قلت له : اشعر بالدوار والصداع .
قال لي مستفسرا والشك في صدره لأنني غريب ولا يعرف كيف وصلت لعنده : من ارشدك لعيادتي ؟
عرفت ان المنتحل خائف فقلت له : ارشدني (...) الذي جاء بابنته الصغيرة مساء أمس .
شعرت أنه وقع في الفخ ، بعدما طمأنته ، قال : كلامك صحيح البنت تحسنت ، والدها جاء بها صباح اليوم وزرقتها الحقنة الثانية فهي مصابة بالتهاب قصبات الرئة .
لا اعلم ماذا اقول له وهل اجر بشعري وأضرب على رأسي مما يجري في مدينة عريقة فيها عدد من الجامعات ومركز علمي وثقافي ، شوارعها مزدحمة بيافطات الاطباء المعلقة على جدران الابنية والتي اخفت لون البناء من كثرتها ، ولا يوجد من يوقف هذا التطاول على علم الطب ، قلت له : احسنت بعلاجها ، الحمد الله انها بخير .
قال لي مستفسرا : تشعر بالدوار والصداع .
قلت له : نعم .
علق سماعة الفحص على رقبته ولبس كفان مطاطان وطلب مني ان استلقي فوق طاولة الفحص واخذ يفحص صدري وظهري ويحدثني كأنه بروفيسور مختص يشرح محاضرة طبيبة لطلاب كلية الطب ، ثم قاس ضغط الدم وهز رأسه وطقطق بفمه قائلا : عمي ضغطك عالي .
في هذا الاثناء دخلت طفلة عمرها يقارب الثمان سنوات قاطعت حديثه قائلة له : بابا يسلم عليك ويقول رأسه يوجعه ، اخذ علبة حبوب مسكن لآلام الصداع من دولاب الادوية وأعطاها للطفلة ودفعت ثمن العلبة وخرجت مسرعة سألته بامتعاض : في كل الدول المتقدمة يمنع بيع الادوية للأطفال فكيف تعطي حبوب لطفلة صغيرة .
قال مبتسما : هذه ليست أول مرة تشتري مني الدواء ومنزلهم قريب .
قلت له : لو فرضنا أنها بلعت بعض من الحبوب في الطريق فهذه طفلة وتريد تجربتها .
قال مبتسما : لا انها طفلة ذكية .
قدم لي شرحا مفصلا عن ضغط الدم والوقاية منه ، وطلب مني ان احضر صباح الغد قبل الفطور لأخذ عينة لفحص الدم ثم يعطني العلاج الدائم للأمراض المزمنة .
دخل علينا رجل في العقد الخامس يحمل قنينة مشروب غازي فيها كمية من البول اعطاها للمضمد رفعها فوق بصره ونظر اليها بصورة مستغربة و وضع الشك في قلب الرجل ثم قال له : تعال بعد صلاة الظهر خذ النتيجة . هَمَّ الرجل بالخروج لكن المنتحل سأله : عقمت قنينة البيبسي .
هز الرجل رأسه مؤكدا انه عقم القنينة وخرج من الغرفة ولم ينبس بأي كلمة .
قلت له : اعتقد الرجل خرج خائفا .
قال لي : البول الذي جلبه كدر غير صافي ، وهذا دليل على ان الرجل يشكو من التهاب المجاري البولية .
قلت له : كيف عرفت انه يشكو من التهاب المجاري البولية .
ابتسم وقال : عمي ... نقرأها وهي طائرة ....! نعود الى موضوعك ... نصيحتي لك قلل الملح واشرب ماء .
وأعطاني علبة حبوب قائلا : استعمل من هذه العلبة كل صباح حبة حتى نعرف نتيجة الفحص المختبري غدا .
دخلت امرأة في العقد الخامس ومعها شابة في العشرين من العمر ، توقفتا عند باب الغرفة وشعرت انهما خجلتا من وجودي في غرفة الفحص ، ابتعدا مسافة للخلف لكن صاحبنا اخذ ورقة من على طاولته وخرج مسرعا نحوهما لم تمضي دقيقة حتى اسمع صوت المرأة تشكره وتدعو له بالخير والنجاح الدائم ودعهم وعاد لغرفة الفحص .
دفعتُ له مبلغا من المال طلبه لقاء اجرة الفحص وعلبة الدواء ، وقبل ان اغادر المكان سألته : هل كان المرأة مريضة وعالجتها . قال لي بثقة وغرور : المريضة الشابة ابنتها ، لقد كانت مصابة بالعقم وعالجتها واليوم كان الفحص ايجابي وظهر انها حامل ، بصراحة ازداد فضولي لمعرفة كيف استطاع معالجة العقم فقلت له : لم افهم ما تقصد . قال : هذه الشابة تأخر الحمل عندها سنتان بعد زواجها راجعت عدد من الاطباء المختصون وبعد اجراء عشرات الفحوصات اكدوا لها أن غير مصابة بالعقم والعيب من زوجها وطلبوا منها ان يراجع زوجها الاطباء لكنه رفض ، وبعدما جاءت لعيادتي وعرفت قصتها عالجتها لأنها كانت هي المريضة وخلال ستة اشهر اصبحت حامل وخلصتها من الطلاق ، وظهر ان الاطباء لم يشخصوا سبب العقم .
تمالكت اعصابي بعد ان قررت ان انتف شعر رأسه ، خرجت مسرعا من منزله العن الساعة التي قررت ان اذهب لهذا المنتحل ، ولا اعرف ماذا اقول للرقابة الصحية .
جئت الى المقهى الصغير وجلست بجانب صاحب المقهى فهو رجل كبير بالعمر أمّي خبرته بالحياة اكتسبها من حياته وذاق حلوها ومرها ويصوغ تجارب حياته التي اكتسبها بعد خبرة طويلة بنصائح .
وسألته ما رائك بالمعالجين المنتحلين صفة طبيب ..؟
قال لي : تعرف يا صديقي الشيخ ان المنتحلين صفة طبيب أو صيدلي انتشروا في كل محله وزقاق وشارع باختصاصات مختلفة ، منهم اختصاص ولادة ، وآخرين بالكسور والعظام والآم الظهر ، وبعضهم اختصاص امراض نفسية وعصبية ، ومنهم يعالجون بالإعشاب ، وآخرين بإخراج الجن والشياطين والعلاج بالروحانيات والأدعية وأخر بالتنويم المغناطيسي ، وآخر امراض نسائية ، أنظر الى يدي هذا الساعد انكسر وأنا طفل صغير سقطت من درج المنزل اخذني والدي رحمه الله الى احد المجبرين المحليين وجبر يدي و كما تراها معوجة .
هؤلاء متطفلين على مهن علمية كل طبيب يقضي سنوات دراسية لا تقل عن خمسة عشر سنة حتى يستطيع ان يعالج المريض ، لكن اين الرادع الذي يوقفهم ..؟ خليها على الله ...! الفقراء والجهلة يقعون بها واعتب على الاعلام لأنه مقصر بتقدم النصائح للشعب ويحذرهم من مراجعته المنتحلين وعلى الرقابة ان تضع حدا لهم ، ثم استرسل بالكلام قائلا بنبرة تميل للعصبية والانزعاج لو كنت مسئولا في دائرة الصحة لغلقت جميع المستشفيات والصيدليات حتى الجهات المسئولة تنقذ الشعب من الدجالين والمنتحلين وتغلق محلاتهم ، إما يكون العلم والطب الحديث هدفنا أو الدجل والشعوذة .
قلت له : هذا ليس تحريض منك وإنما تمني ان ينتهي زمن الدجل والمنتحلين صفة طبيب أو صيدلي والشعوذة والعلاج بشرب ماء ورقة مبللة مكتوب عليها حروف وخطوط كاتبها لا يعرف ما كتب .
شكرته على هذه الملاحظة ونهضت من جانبه وجلست حول الطاولة التي اعتدت ان اجلس بقربها وانتظرتك حتى تجيء للمقهى وتسمع مني الحكاية .
قلت له : اشكرك صديقي الشيخ على هذه الحكاية ومن يسمعها أو يقرءاها يعتقد أنها من الخيال .
ابتسم قائلا بثقة :لكنها حقيقة حدثت وفي بداية حديثي قلت لك لن تصدق ما تسمع .
اعتذرت منه لاني شككت في حديثه فحكايته تحتاج من الرقابة الصحية والإعلام ان يضعوا حدا لهؤلاء المنتحلين
نلتقي في الجزء التاسع من شوارع المدينة ...وبارك ازادي ( حديقة الحرية ) .
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
http://www.algardenia.com/maqalat/17639-2015-07-06-16-02-19.html
4053 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع