د. تارا إبراهيم ـ باريس
ما يميز مجتمعا عن مجتمع آخر هو مدنيته وموقفه إزاء حدث ما وكيفية التصرف تجاهه، هذا الموضوع الذي يمس الجميع، هو من اجمل ما رأيته في فرنسا بل إن سبب اعجابي الشديد بهذا الشعب يكمن في المدنية التي يتمتع بها وطريقة تصرفه ازاء الاحداث التي تقع في بلاده صغيرة كانت أم كبيرة، والحس الوطني تجاه ارضه وانفعاله مع اي قضية تمس مقدساته الإنسانية بسوء، هذا الحس الذي لا ينم إلاعن حبه الشديد لوطنه والافتخاربالانتماء اليه مهما كانت اتجاهاته السياسية يمين إلى يسار.
المواطنون هنا لهم الحق في التعبيرعن آرائهم، والكل يعتقد انه من الطبيعي ان يمارسو هذه الفعالية بكل مدنية مع احترام الرأي الآخر، والكل في الحقيقة له وجهة نظر في اي موضوع يمسهم، وليس لهم موقف حيادي، بل ويعبرون عن ارائهم بكل جرأة .. مع ابسط حدث قد يقومون بالتظاهر السلمي ودون اي مشكلات..ولعل من اجمل هذه التظاهرات التي رأيتها هي ما تسمى بـ ( بالمسيرة البيضاء )التي يقوم بها الفرنسيون للتعبيرعن غضبهم وسخطهم الشديد لدى حدوث جريمة ما، فالجميع يرتدون الثياب البيض ويتظاهرون بهدوء دون نطق اي كلمة أورفع شعارات، فقط يجوبون الشوارع بصمت تام وبلا ضجيج .
وعلى الرغم من ان هذا التقليد بعود بالاصل إلى بلجيكا الا ان الفرنسيين يتقنونه وبتفننون فيه بشكل رائع، والمسيرة تم تنظيمها سابقا ضد "قانون الصمت" الذي اتبعته السلطات البلجيكية في تعاملها مع مجرم قام بإعتداءات جنسية وقتل ضحاياه من مئات الاطفال في عام 1996 والتي فشل البوليس في الوصول الى الجاني في الوقت المناسب، ما اثار سخط وإستنكارالشعب ومن هنا اتت فكرة القيام بالمسيرة البيضاء والتي اشترك فيها الالاف من البلجيكيين تعبيرا عن حزنهم وغضبهم. لذا فالمسيرة البيضاء منذ ذلك الوقت اتخذت طابعا وحيدا وهوالتظاهر من اجل الاطفال وإدانة الاعتداءات وجرائم القتل التي تقترف بحقهم، وكذلك هي مسيرة ضد الظلم تجاه القاصرين، واي مشكلات تتعلق بالشباب والتي قد تؤدي الى موتهم على أيدي المجرمين اوالسكارى او البيدوفيليين اوالغلمانيين بعيدا عن السياسة والمعضلات الاخرى، فهذه المسيرات هي متعلقة بالامور الاجتماعية بشكل خاص .
المسيرة مستقلة مدنية لاتمت الى جهة اوحزب ما بصلة، وغالبا ما يتقدمها اهالي الضحايا من الاباء والامهات والاصدقاء، فوجودهم مهم جدا فيها، وكما يقال : ذلك هو اضعف الايمان من قبلهم.. اما الناس الذين يشاركون في المسيرة فهم يعبرون عن تضامنهم مع عوائل الضحايا كونهم عاجزين عن تفسير الموضوع أو منع وقوعه، وفي النهاية يتركون الامرللقضاء العادل للبت فيه.
المثير للاهتمام اننا لو اردنا ان نطبق قانون المسيرة البيضاء في العراق عامة وإقليم كوردستان خاصة، لتم القيام بها كل يوم، ولكن ما من احد يشعر بالمسؤولية تجاه هذه الحالات ،إذ من المهم ان يعبرالمجتمع عن تضامنه مع المسائل المتعلقة بالجرائم وخصوصا المتعلقة بقتل النساء او الفتيات القاصرات اللواتي يمرخبر قتلهن بلا مبالاة لدى المواطنين ودون أي إهتمام وكأن الامر طبيعي جدا. هنا نحن لانناشد بعض المنظمات النسائية الكارتونية التي كثرت بعد سقوط النظام السابق التي تناضل حسب قولها من اجل حقوق المرأة ولا المنظمات المدنية التي تعنى بحقوق الانسان بما فيها حقوق النساء بالطبع. فعندما يتعلق الامر بالمرأة الكل صم بكم لا يعقلون، كأنه موضوع تافه لايستحق التحدث فيه.
المسيرة البيضاء هي مسيرة عفوية، لا تحتاج الى التفكير العميق للقيام به لان الظلم ليس لديه اكثر من تعريف، بل تعريف واحد وهوان الحياة تعاش مرة واحدة وهي ثمينة للجميع نساء واطفالا وشيوخا ...كل انسان يحق له أن يعيش بأمان وسعادة وحرية... ومن اجل مجتمع اكثر مدنية، نحن بحاجة الى هكذا نوع من المسيرات التي إن لم تقم بها المنظمات والجمعيات والروابط، فليقم بها ابناء الحي الواحد... نحن جميعا مسؤولون عن صمتنا..الصمت القاتل والمخجل الذي يبعدنا عن الالتحاق بأضعف اساليب التعبير عن رأينا وهي المسيرة البيضاء .
883 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع