بدري نوئيل يوسف ـ السويد
عام 1974 في مدينة السليمانية ، كلفني احد الاصدقاء ان اصمم له منزل ، وقدم لي بعض الاقتراحات والأفكار التي يحتاجها في منزل الاحلام كما يسميه صديقي ، رسمت له خريطة المنزل وبعد عرضها عليه عدلت بعض القياسات ومساحة الغرف حسب رغبته . توكل صديقي على الله وحضر المواد الاولية للبناء وخططتُ له المنزل على الارض وباشر العمال بالحفر وبدأ البناء يرتفع تدريجيا وصب السقف الكونكريتي ، وبدأ البناءون بأعمال البياض .
في احد الايام جاءني صديقي الى المكتب تظهر على وجهه الكآبة وتملكه حزن شديد على وشك أن يجهش بالبكاء . جلس مقابلي لا ينبس بأي كلمة ، عند دخوله لمكتبي بهذا المنظر توقعت ان حدث شيء مؤسف له أو فقد احد من عائلته . نهضت امامه مستفسرا منه فقلت له : صديقي ... قاطعني قائلا : بلا صديق بلا بطيخ كل اللي صرفته على بناء المنزل راح .. تعب السنين ضاع ، تسمرت في مكاني وجف حلقي وسألته بصوت خافت : هل انهار المنزل ام فجروه ، جرفته البلدية ، أجاب عليّ : لا .... كل البناء خطأ ، لا يصلح المنزل الذي صممته لسكن الدجاج .
سألته بانفعال : من قال هذا الكلام ؟ أجاب بتلعثم : صديقي . وتوقف عن الكلام .
جلست خلف مكتبي ورثت سيجارتي وقلت له : من هو هذا العبقري الذي اقترح أن المنزل لا يصلح لسكن الدجاج هل استطيع التعرف عليّ ومعرفة الخطأ اين وإذا ثبت كلامه فأنا مستعد ان ادفع لك كل التعويض . انقشع الحزن عنه وتلاشت الحيرة و قال لي : صديقي فهو مشرف على اكثر من عشرين منزلا. قلت له : استطيع اعرف من هو ، فقال : انه فلان الفلاني . بهدوء سألته : ممكن تتصل معه وتأخذ لي موعد معه نناقش افكاره وأنا مسئول عن اي اضرار تتكبدها . قال بهدوء : ممكن نجتمع في منزلي مساءا ! قلت له : لا اتحمل الانتظار الى المساء قل لي بأي مؤسسة هندسية يعمل فأنا ذاهب للقائه . قال بهدوء : انه يعمل الدوام الصباحي والمسائي لأنه مدرس تاريخ ، باستغراب واندهاش سألته : تقصد الذي يشرف على عشرين منزل وأوقعك في دوامة القلق والحيرة والبكاء مدرس تاريخ . هز رأسه بالإيجاب . قلت له مبتسما : وهل صدقت رجلا مختصا بالتاريخ يتكلم بالهندسة . قال لي : لكنه ذكي ويفهم بقدر عشرة مهندسين . على كل حال في المساء ذهبت لنقابة المهندسين وقدمتُ شكوى ضد فلان الفلاني ، بعدها استدعاه نقيب المهندسين ولجنة مختصة وحققا مع الرجل وعرفا انه يستطيع ان يوهم بعض الاشخاص بأن البناء غير صالح وليس له في الامر غير الضحكِ عليهم ويشتت افكارهم و لله في خلقه شؤون ، بعد معرفة صديقي حكاية المدرس من قبل النقابة وهددته بإحالته الى القضاء ، كف عن هذه الممارسة القذرة . واستمر صديقي بإكمال منزله ووصلنا الى مرحلة الصبغ وكانت المصيبة اعظم .
كانت المفاجئة عندما علمت ان الالوان محجوزة وأصبحت رموزا لأحزاب سياسية إن استعملت أيا منها فصاحب المنزل محسوب عليهم شاء أم ابى ، وطلاء واجهة منزله باللون دليل على أن الشخص منتمي للحزب ، وطبعا الاسود محجوز فهو للافتات الشهداء الابرياء ومن ينتقل الى ذمه الله ، ، وإذا رغب رجلا السلامة والحياد وضمان حياته عليه اختيار الالوان المركبة ، فهناك الوان لا تتناسب مع الذوق العام وتشوه معالم البناء ، مثلا القهوائي ، والبرتقالي الوان محايدة ومن يدري ربما يظهر لنا من يؤسس حزبا جديد يحجز له لون من هذه الألوان ولا اعلم متى يطلق سراحها لتنعم بالحرية ويختار الناس واجهة بناياتهم بحرية .
بعد هذه المقدمة ولحظي العاثر مع صديقي اعجبه صبغ حافات الشبابيك باللون الاخضر ، وفي اليوم التالي اشيع في المحلة أن صاحب الدار ينتمي لحزب الاتحاد الوطني الذي يرأسه جلال الطالباني المحظور في تلك الفترة مما اضطر لإعادة الصبغ من جديد ووقع في حيرة من امره اي لون يختار اتفقنا ان يصبغ المنزل باللون محايد واقتنع صديقي باللون الرصاصي وصبغ الصباغ الواجهة والسياج وفي اليوم التالي عند مجيئنا للمنزل شاهدنا عدد من رجال الامن (النظام السابق ) يحيطون بالمنزل وهم مدججون بالسلاح وسيارتهم تقف حول المنزل كأن هناك مجرم هارب يسعون لإلقاء القبض عليه ، والغريب في الامر تواجد ( شوفل ) بالقرب من المنزل ترجلنا من السيارة مستفسرين ماذا يجري حيث العمال والصباغين محجوزين داخل المنزل .
سأل صديقي احد المسلحين باستغراب ما هي المشكلة . لم يرد عليه لكن تقرب منه رجل علمنا أنه نقيب في الامن سأل بعصبية : من هو صاحب المنزل . رد صديقي قائلا : أنا وهذا المهندس المشرف ، سأل النقيب مستفسرا . لماذا غيرت لون الصبغ من الاخضر الى الرصاصي . تلعثم صديقي ولا يقدر الايجاب وعلم ان عميل من بلغ الامن عليه انه ينتمي لحزب محظور ، تدخلت وقلت له اللون لن ينسجم مع اصباغ المنازل المجاورة ، صرخ بوجهي ومسك كتفي يهزه بقوه كاد يطرحني ارضا قائلا : يعني انت غيرت اللون ... سحبني بقوة الى الشارع وقال بعصبية : ومن كتب هذه الشعارات ضد حزب البعث على السياج . اتّسعت عيناي ذهولا ، و تراجعت في ذعر ، و اشتدّ بي الخوف و الرّعب وقلت بصوت مختنق ، مبحوح وما علاقتي أنا بما يكتب على الجدران ، ربما من يناهض الحزب كتب على الجدار . قال لي : يعني تعرف ان هناك مناهضين ضد الحزب ... شباب ( موجها كلامه للمسلحين ) خذوا للتحقيق . تجمّدت الدّماء في عروقي وارتعدت مفاصلي ارتعادا لا مثيل له ، و انهارت أعصابي و انحبس صوتي في حلقي ولم أعد قادرا على النّطق من شدّة الفزع و الاضطراب وأقول مع نفسي : هذه نهايتك يا مهندس منزل الاحلام ... مَن يقدر يخرجك من هذه الدائرة ؟ بعدما شاهدت الشعارات مكتوبة على الجدار ، صرخ النقيب موجها حديثة لسائق الشوفل ان يقلع السياج المكتوب عليه الشعارات . ولا اعلم كيف ظهرت امامي امرأة عجوز تلبس الملابس الكردية تقف امام الشوفل تمنع السائق من الحركة وتقبل يد النقيب وتطلب منه صبغ الجدار . لحظات تفكير وافق النقيب وهددني انها هذه المرة الاخيرة لخاطر المرأة العجوز . انسحب الجميع من امام المنزل . قبلتُ رأس المرأة ويدها فهي جارة المنزل الذي تحت الانشاء كانت تقف عند باب منزلها اثناء تواجد المسلحين ، وكتب لي عمر جديد ، وبدأ الصباغين بصبغ السياج بالون المحايد الرصاصي .
4042 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع