هيفاء زنگنة
حين نرى مدينة الرمادي التي أصبحت كتلة من الخرائب ببيوتها، ومبانيها الحكومية، وجوامعها، ومدارسها، وننظر بدقة لنميزها مما تبقى من المدن السورية، ومن قبلها مدينة الفلوجة، نرى مناظر الخراب الشامل في اليوم التالي « للقيامة»، كما تقدمها استديوهات هوليوود، في أفلام تحتل المرتبة الأولى، في شباك التذاكر، أمريكيا وعالميا، ويسارع الناس لمشاهدتها لأنها تمثل عالما غرائبيا، يسليهم ولا يمسهم.
فالخراب الشامل، كخلفية لصعود البطل الامريكي القاهر، المنتقم، ثيمة هوليوودية مفضلة، تقع أحداثها في البلدان التي احتلتها أمريكا وحلفاؤها عسكريا، كما في فييتنام والعراق، الى ان أستلتها وقلدتها بتقنيتها العالية، الدولة الاسلامية. فهل هي آلة تصنيع وانتاج الموت تتحدى المخيلة، لتعيد انتاج الاحداث المرعبة، بأشكال وتنويعات تلائم مكانا وزمانا محددا، أم انها الاحداث الترويعية، مثل وجبات ماكدونالد السريعة، تقذف على الشعوب قذفا فلا يستطيعون مجاراتها؟ ما الذي يبقى من مدن تتعرض، يوميا، لقصف احدث الطائرات الامريكية، تحت راية التحالف الدولي الستيني، والذي قيل تبجحا انها بلغت 650 غارة على الرمادي وحدها، منها 150 غارة اثناء الهجوم الأخير، يضاف اليها البراميل المتفجرة لحكام يستقتلون لمحاكاة « الشيطان الأكبر» بدعوى محاربته؟
ما الذي يبقى من الانسان وهو يتلقى جرعات السموم جسدا وبيئة ومجتمعا؟ وكيف نتعامل مع الحياة والأمل بالمستقبل والموت الأسود، يفترس أهلنا ويغدر بالاحياء، وأن رفعوا رايات السلام البيضاء؟ هل يساعدنا اعادة تعريف المفاهيم كالوطنية، الخيانة، العمالة، الارهاب، والانتصار العسكري، على فهم ما يحيط بنا من جنون عبثي؟
كيف نصف اعلان الانتصار على مدينة بدأت سياسة مسحها وسكانها عن الوجود، منذ الغزو الأنكلو أمريكي في 2003، وليس كما يشاع ويرسخ كحقيقة الآن، منذ سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية قبل سبعة أشهر على المدينة، وزعماء العالم المسؤولون، بشكل مباشر وغير مباشر، عن ولادة التنظيم، يصفقون ويهللون، ويتبادلون التهاني لتحريرهم المدينة منه؟ الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء البريطاني والكندي ووزراء الدفاع والأركان، في جميع انحاء العالم، عبروا عن فرحهم بالانتصار، والذي هو بالحقيقة نزيف دم عراقي مهما كان اسم الجهة المقاتلة. يقولون إنه انتصار للتحالف الدولي بقيادة أمريكا. حيدر العبادي، رئيس الوزراء، يقول إنه انتصار الجيش. ميليشيا الحشد الشعبي تدعي انه لولاها لما تم الانتصار. رئيس الوزراء الفرنسي وصفه بأنه الانتصار الأكبر.
في الرمادي، بين الخرائب، صار للنصر آلاف الآباء. لم يتحدث زعماء العالم عن محو 80 بالمئة من الرمادي، ومن قبلها 70 بالمئة من الفلوجة بيد قوات الاحتلال الامريكي والبريطاني، وليس تنظيم الدولة الاسلامية. عن معاملة الأهالي كرهائن سواء من قبل قوات الاحتلال أو الدولة الاسلامية أو النظام العراقي الذي بزها في ارهابه وترويعه وتهجيره المدنيين. المدن « المحررة» سابقا مثالا يحتذى.
يقول يان كوبيش، الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، واصفا المناطق المحررة: « هناك في المناطق التي تم تحريرها من سيطرة داعش تقارير تفيد بحصول اعتقالات عشوائية، وعمليات قتل، وتدمير ممتلكات، وتقارير متزايدة، أيضاً، عن جهود لتغيير التركيبة السكانية لتلك المناطق على نحو قسري».
أين يمضي الهاربون من جور تنظيم الدولة ونازحو المدن – الخرائب « المحررة» اذن؟
يشير تقرير أصدره، مركز جنيف للعدالة، بعنوان « العراق: معارك الانبار، سياسة الأرض المحروقة والابادة الجماعيّة « الى معاناة النازحين الكارثية : « لقدّ عانى المدنيون في مدن الانبار اسوأ معاناة وتمثل جزءاً منها في عدم السماح حتى للفارين منهم الدخول الى بغداد في رحلة البحث عن مكان آمن. ومارست السلطات سياسة طائفية واضحة اكدنا في اكثر من مناسبة انها سياسة تطهير طائفي ممنهجة وموجهة تحديداً ضد سكّان مناطق بعينها تهدف الى تشريدهم قسرياً وحرمانهم من العودة الى مناطق سكناهم بعد مذابح جماعية ترتكبها ضد من لا يتمكن من الهروب».
هذا هو أحد جوانب « انتصار» النظام الذي يصفق له العالم الغربي بازدواجية معايير تزداد اسفافا، يوما بعد يوم. وهو الجانب الذي تؤكد كل التقارير الحقوقية، والانسانية، العراقية والدولية، على وجوب ايجاد حل جذري له. يقول يان كوبيش : « لا يمكن هزيمة داعش بالوسائل العسكرية، فقط، دون معالجة الأسباب الجذرية للعنف والفكر الذي يستند إليه التنظيم… فالفوارق، والحرمان والظلم وعدم المساواة تخلق إستياءً مشروعاً، ولا يمكن معالجة هذه الشواغل وغيرها إلا من خلال مشاركة متساوية، وتشمل الجميع في العمليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية، إستناداً على مبدأ الحقوق المتساوية والمساءلة والعدالة للجميع «. ويشير مركز العدالة الى انه كان بامكان السلطات العراقية ان تسلك طريق الحل السلمي للاوضاع قبل اللجوء الى الحل العسكري « فقد تظاهر الملايين من ابناء المناطق المهمشة، سلميا، منذ كانون الأول/ديسمبر 2012، مطالبين بحقوقهم المشروعة الا انهم جوبهوا بالرفض واتهم كل من شارك في التظاهرات، بانه ارهابي».
ويرى المركز ان الأمم المتحدّة تتحمل واجباً اخلاقياً وقانونياً بضرورة تشكيل لجنة تحقيق، دولية، مستقلة للتحقيق في الجرائم وتقديم المسؤولين عنها للعدالة، والعمل الفوري والجادّ لإيقاف مسلسل الدمار في البلد والذي يتحمل الاحتلال الامريكي المسؤولية الأولى عن كل ما جرى ويجري فيه منذ عام 2003.
ان سبب اقتباسي لهذه التقارير هو اعتقادي بان الحلول السلمية لما يجري في العراق غير مستحيلة ومطروحة بشكل واضح اذا ما توفرت النية الوطنية عراقيا واحترام القانون دوليا. واذا ما أريد للعراق ان يبقى بلدا موحدا، يتمتع فيه الجميع بالعدالة وحقوق المواطنة بعيدا عن الانتقام والاحباط والتطرف. عدا ذلك، سيبقى الحديث عن المصالحة والقضاء على الارهاب مجرد هراء.
1112 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع