عصام شرتح
بادئ ذي بدء، نقول إن النقد موهبة كموهبة الغناء، أو الرقص، أو الموسيقا؛ وهذه الموهبة تصقل بالممارسة، وعمق التجربة، والخبرة،والمعرفة الواسعة؛ويخطئ من يظن أن الناقد يُصنَع صنعاً؛ويخطئ من يظن الدارسَ ناقداً؛فشتان شتان مابين الناقد والدارس؛
فالناقد يؤسس ويبني ويبتكر ويقوَّم، في حين أن الدارس عاجز عن كل الأشياء التي ذكرناها، إنه يقدم رؤية بناء على رؤى،ويصل إلى رؤية مستخلصة أو مستوحاة من سابق؛ بمعنى أدق: إنه ينطلق من نتائج مسلمة؛ ورؤى محكمة ومثبتة من سابق؛ في حين أن الناقد يصنع رؤيته من مقدمات، ومن خلالها يصل إلى نتائج عديدة، ؛ويستخلص الأحكام المبتكرة، والرؤى الجديدة؛ولا يمكن أن يصل الدارس إلى مرتبة الناقد،وإن اجتهد،لأن النقد إبداع شأنه شأن الإبداع ذاته؛ ولا نبالغ إذ نقول: إن الناقد والمبدع صنوان في عملية الخلق الفني،لا يقل أحدهما عن الآخر في العملية الإبداعية.
وهذا الأمر يدفعنا إلى التمييز بين الناقد بالمعنى الحقيقي الجوهري للكلمة، والدارس بالمعنى الدقيق لها؛ ولا نبالغ في قولنا: لقد توفي النقد السوري بعد احتضار دام سنوات من المرارة، والألم، والركون، والتحجر،ولعل القائل يتساءل كي توفي النقد السوري، وثمة نقاد يبدعون في مجال النقد،وثمة دراسات نقدية محمومة لنقاد سوريين مرموقين تصدر هنا وهناك؟!!
أقول لهؤلاء: إن موهبة نقدية أو موهبتين لا تصنع مجداً نقدياً لبلد يغص بالمواهب الإبداعية الفذة في ظل عشرات المواهب النقدية الأخرى التي تتفتق في أقطارنا العربية؛والمؤسف حقاً أن الكثيرين لا يعترفون بتدني الحركة النقدية في سورية؛ وخاصة في المجالين الأسلوبي والجمالي، فمعظم من يشتغلون في النقد السوري هم لا يعرفون من النقد سوى اسمه،والمؤسف أكثر من ذلك بكثير أن الجامعات السورية تخرج تحت اسم النقد: أسماء لا تعرف معنى النقد ،ولا تملك أدواته، ومقوماته الحقيقية،وإليكم على سبيل المثال لا الحصر كل سنتين تخرج جامعة حلب تحت مصطلح أستاذ في النقد طالباُ أو طالبين بأطاريح وعناوين بعيدة كل البعد عن مضامينه،والأدهى من ذلك والأمر يمنحونهم درجة الشرف،والشرف منهم ومن أساتذتهم براء، والأغرب من ذلك بكثير أن أغلبهم أضغاث مواهب، فماذا ستقدم مثل هذه الأضغاث للنقد السوري وللحركة النقدية؛ والمؤسف حقاً أن هذا الأمر لا يتعلق بجامعة حلب فحسب،وإنما بمعظم جامعاتنا السورية العزيزة. ولا أبالغ إذ أقول : إن الأساتذة القائمين على النقد في سورية هم (دارسون)؛وليسوا بنقاد،وهذا الأمر بالطبع لا يخلو من استثناءات،ولكن السمة العامة في جامعاتنا السورية انعدام النقاد المؤسسين الحقيقيين الذين يخرجون المواهب الفذة، التي عليها تنبني ركائز الحركة النقدية المثمرة في المستقبل القريب.
والملاحظ أن دارسينا ولا أقل نقادنا من الأكاديميين يهربون من الدراسات التطبيقية هروبهم من الموت،فيلزمون طلبتهم بمواضيع نظرية، أو تجميعية لا تصنع نقداً،ولا تؤسس لناقد أو مبدع حقيقي أو حتى تمهد له،فلا تقدم هذه الدراسات سوى أبحاث عقيمة ودكاترة أكثر عجزاً وعقماً من أساتذتهم؛فلا يعرفون سوى القاعة واللقب الجديد المفخم الذي كساه به مشرفه وألبسه إياه لبوساً حسناً،وهو ومشرفه لا يزن بعوضة في ميزان النقد.
والمؤسف أكثر من ذلك بكثير أن بعض الأساتذة يلزمون طلبتهم بأفكارهم، فلا يستطيع الطالب المسكين إلا أن يرضخ لأوامر المشرف ،وإن خرج عليه تشطب أطروحته ويلقى به في قارعة الطريق لأن كل القوانين ضده،وللأسف في سورية الأستاذ الجامعي إله الطالب الأكبر، معصوم عن الخطأ، والزلل، والنسيان، ينال الطالب أعلى الدرجات إن استشهد بقوله، أو طبل أو زمر برأي مشرفه، وإن كان العكس رمي بهذه الكفاءة بقارعة الطريق خالي الوفاض إلا من بعض الإهانات الشنيعة الملصقة في دهنه من مشرفه اللعين العنين (وأسفاً على بلد لا تحاسب فيه أساتذة الجامعة المدمرين كالقتلة والمجرمين) لأن من يقتل موهبة في هذا الوطن أشبه بجندي محتل) يستحق الركل بالأقدام مهما كانت درجته العلمية ومنصبه المفخم،وللأسف إن رضخ هذا الطالب المسكين لمشرفه في القول والفعل؛ يصبح دون أن يدري نسخة مصغرة متحجرة من مشرفه العنين،فماذا يقدم هذا العنين للنقد السوري غير الطنين؟!!
واللافت أكثر من هذا وذاك أن بعض الألقاب المفخمة التي تمنحها الجامعات السورية لطلبتها(أستاذ نظرية النقد والأدب) وهو برئ من النقد والأدب براءة الذئب من دم يوسف،ولا أبالغ بأن الحرقة والألم تكوي القلب عندما نجد أن النقد المغربي وصل القمة ونحن نجتر الألقاب، ونتزاحم المناصب،والمؤسسات الثقافية،متوهمين أو واهمين أن النقد السوري بخير وبأنه معافًى؛ إن أمثال هؤلاء يضحكون على أنفسهم،قبل أن يضحكوا على الآخرين؛
والملاحظ أيضاً أن المواهب النقدية المثمرة في سورية تحارب، والناقد المبدع المؤسس ليس له رصيد، أو حافز سواء في مؤسسته التي يعمل فيها، أم بالمنابر الثقافية ،وللأسف هذا الأمر يدفع بكثير من المواهب إلى الانزواء، ورويدا رويدا إلى السكتة الإبداعية المميتة فتذوي هذه الموهبة أو تلك، وتذوي معها قلوبنا حزناً وغيظاً على مجد نقدي كان سيسطر بوفاة هذه الموهبة أو تلك ،ومعها تخفت أحلامنا وترتد إلى الحضيض.
ما أريد قوله : إن الحركة النقدية في سورية ضعفت ليس من قلة المواهب والخبرات السورية وإنما من تطفل أضغاث المواهب المفاصل الحساسة قي مراكزنا الثقافية خصوصاً بالمؤسسات الجامعية التي عليها المعتمد في رفد الطاقات النقدية التي ترتقي بها الحركة النقدية، وتزدهي ،فهي للأسف كانت العبء ؛وكانت نقطة التخلف، والضعف ؛وهي السبب الرئيس في تدهور الحركة النقدية وعقمها؛ولا أبالغ قد تفتقد جامعة سورية بكاملها إلى ناقد حقيقي مبدع ،فكيف تصنع مثل هذه الجامعة ناقداً؟؟ أو حتى تفكر في تخريج ناقد،ولو تصفح ناقد حقيقي بعض الأطاريح التي نالت مرتبة الشرف في درجة الدكتوراه في إحدى جامعاتنا الموقرة خاصة في النقد، لضحك حتى الإعياء من الطلبة وأساتذتهم الذين منحوهم هذه الدرجة اللا مستحقة؛ بالمقابل نلحظ أن جامعة بغداد كانت تخرج في السنة الواحدة أكثر من ثلاثة نقاد مؤسسين بمؤلفات لا تنسى؛ وحاتم الصكر،ومحمد صابرعبيد،علي جعفر العلاق،بشرى البستاني،ومحسن أطميش أمثلة رائعة للحركة النقدية المحمومة المتطورة في العراق الشقيق.
والمؤسف حقاً أن الكفاءات النقدية المهمة مازالت مهمشة مقارنة بأضغاث المواهب،ولعل ارتقاء هذه الأضغاث المفاصل الثقافية الحساسة في مراحل كثيرة، أسهم رويداً رويداً في قتل الحركة النقدية في سورية إلى لحظة تأبينها مساء أمس.
والسؤال المطروح الآن هل يمكن للحركة النقدية في سورية أن تولد وتنتشي من جديد في ظل وجود بعض الكفاءات النقدية المهمة؟
من الظلم أن نجحف أهمية بعض الطاقات النقدية التي أعطت وقدمت الكثير للحركة النقدية في سورية ومازالت تعطي أمثال الناقد الكبير: خليل موسى،و فايز الداية، وفؤاد المرعي،وعبدالكريم اليافي،ونعيم اليافي، وأدونيس،وحسين جمعة ،عبد الله أبوهيف، ووفيق سليطين، وسعد الدين كليب، وغسان غنيم، ولطفية برهم وخلود ترمانيني.... إلخ لكن هذه الطاقات إن لم تجد بديلاً عنها أو رافداً لها لن تتطور الحركة النقدية وتنتشي؛ولا أبالغ إذ أقول : إن النرجسية وحب الذات وعدم الاعتراف بكفاءة الآخر كانت السم الزعاف الذي قتل الحركة النقدية في سورية ،ما إن يولد ناقد حقيقي حتى تجد سياط الهجوم والتشهير به على هفوة هنا أو هناك يدمرون مشروع جيل أو أمل أمة، ينالون بأسمائهم الطنانة الرنانة(دكتور نظرية النقد والأدب- بروفسور فلان) أي بذرة نقدية حقيقية ستنتشي وتظهر للسطح لئلا تكشف هشاشتهم وعقمهم النقدي ،وقد سبق أن أشرت إلى وجود ثلة من الدارسين المدمرين وليسوا النقاد المدمرين، لأنهم بعيدون كل البعد عن النقد ودائرته المقدسة ،هؤلاء هم سبب دمار الحركة النقدية في سورية في الكثير من مراحلها، والأمثلة عليهم كثيرة أدع القارئ الحصيف لاستكشافهم؛ونطلب من الله أن يثوبوا إلى رشدهم،كفى مما أصابنا منهم عقماً وعدماً؛ اللهم خلصنا منهم ومن أمثالهم الذين لا يروا إلا أنفسهم؛ فالساحة النقدية تسع جميع النقاد الحقيقيين؛ أما هؤلاء الأضغاث فلا مكان لهم على خارطة النقد الإبداعي الحقيقي الذي نرومه من ناقدينا الشباب؛ وأعود وأكرر لن تنتشي الحركة النقدية في سورية وتنتشي كسابق عهدها إلا بالطاقات والروافد النقدية الحقيقية التي تنطلق من الجامعات والكوادر الإبداعية الخلاقة وليست الكوادر الطنانة التي لا تزيد الحركة النقدية إلا الأنين والطنين.
999 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع