عدنان عبد النبي البلداوي
عندما ينفعل الموهوب أثناء ولادة النص ،تتهيأ مستلزمات رسم الصورة الشعرية المبدعة ، بقدرة متميزة لايحظى بها غير الموهوب ، وهذه حقيقة يصرح بها النص نفسه ،حال لقائه مع المتلقي ،
ولما كان من مهام الموهبة هو احتواء الانفعال ، لغرض تفعيل ايعازاته،على وفق قدراتها الطبيعية ، فإن عملية تحويل الإيعاز الى الأفق الشاعري ، تمهيدا لاستكمال عوامل الإبداع ، يقتضي أن يرافق تلك العملية كل ما من شانه أن يحافظ على حيوية وطبيعة الجو الانفعالي منذ انبثاقه في عالم الخيال حتى رسمه على الورق بالمفردات التي كثيرا ما تحضر ساعة البث التصويري ،بحال تحتاج بعدها الى ضرب من التنقيح والتهذيب ، وهذا يعني أن الموهوب معفوٌ في الخطرة الأولى من مهمة انتقاء واختيار الكلمات ، لأن أي انشغال آخر خلال هذه العملية ، قد يؤدي الى تصدّع الصورة وفقدان الكثير من مستلزمات الحيوية والترابط ، فلابد إذن من أن يستجيب لعملية الإلهام قبل كل شئ ،بغض النظر عن مستوى التركيب اللفظي الذي يحضره في تلك الساعة ، وبعد أن ينتهي الشاعر من تلك العملية ، تأتي المرحلة الثانية التي تعد ضرورية لكل نتاج ، مهما كان المستوى الثقافي لمصدره ، وقد أكد تلك الضرورة كثير من القدامى والمعاصرين من النقاد والشعراء . يقول أبو هلال العسكري في كتابه ( الصناعتين) : [ فإذا عملت القصيدة فهذبها ونقحها ،بإلقاء ما غث من أبياتها والاقتصار على ما حسن وفخم ، بإبدال حرف منها بآخر أجود منه حتى تستوي أجزاؤها..]
بينما يرى ابن قتيبة أن التنقيح نوع من التكلف ، فالمتكلف عنده ( هو الذي قوّم شعره بالثقاف ونقحه بطول التفتيش وأعاد فيه النظر بعد النظر )
ولعل ابن قتيبة بقوله هذا يطالب الموهوب بثقافة وافية ، لكي لايتكلف مهمة التنقيح أو يصرف لها وقتا أكثر مما ينبغي ،ما دام لديه رصيد يسعفه بالمستلزمات اللغوية المطلوبة ،وإذا كان هذا قصده ، فهل يعني إعفاء الموهوب المثقف من إعادة النظر في عمله الأدبي ، لكي لايوصف بأنه (متكلف).
إن أمرا كهذا لايمكن تنفيذه وسط الكم الهائل من مفردات اللغة ومشتقاتها وشؤونها البلاغية ، فالموهوب مهما بلغ من الثقافة لايمكنه الانقطاع نهائيا عن تهذيب نصه ، بحكم سعة اللغة وقابليتها المستمرة على ملائمة ما يستجد في الحياة .
هذا ما قاله ناقدان من السلف ، فما الذي قاله من خاض التجربة بنفسه في عصرنا الحديث ..؟
يقول الشاعر الصافي النجفي ( أما الصنعة والأسلوب وانتقاء الألفاظ ، فتلك أمور يجب على الشاعر أن يفكر فيها بعد انتهائه من شرح هواجسه ، وبث وساوسه وإخراج رغباته وتكميل شكاياته ، وعندئذ يعمد إلى إصلاح كلمة أو تحسين أسلوب او إبدال لفظة بأحسن منها وأوقع في السمع ، بشرط ألا يخل ذلك الإبدال و الإصلاح اللفظي ببنيان تلك الهواجس الطبيعية التي جاءت مرسلة متدفقة أثناء النظم..).
لاشك في أن الشاعر قد عبّر بقوله هذا عن معاناة رافقته مع النص في مراحل مختلفة من مسيرته الشعرية تأكد له من خلالها بأن إعادة النظر في النتاج ، عملية لايمكن الاستغناء عنها في مختلف الأغراض الشعرية، ورغم احتواء العمل الشعري لمفهوم إعادة النظر ، فقد تباينت استجابات الشعراء لطروحات التهذيب في مختلف العصور ، فهذا مثلا امرؤ القيس شاعر من العصر الجاهلي ، قال بعد أن لمس حقيقة النظرية بالفطرة:
أذودُ القوافي عني ذيادا ذيــاد غــلام جريّ جوادا
فأعزل مرجانـــها جانبا وآخذ من درّها المستجادا
ثم هيمنت الإستجابة لتضم تحت جناحيها ،فضلا عن امرئ القيس ، زهير بن أبي سلمى والحطيئة وكعب بن زهير بزعامة أوس بن حجر ، وكان يقال لطفيل الغنوي (محبّر ) لتحسينه الشعر ،وحرصا على إيصال الكلمة المهذّبة الى السامعين ، يقول البعيث الشاعر ( إني والله ما أرسل الكلام قضيبا خشيبا ،وما أريد أن أخطب يوم الحفل إلا بالبائت المحكك) بينما كان أبو تمام كما يقول أبو هلال العسكري ( لايفعل هذا الفعل أي التنقيح ، وكان يرضى بأول خاطر ، فنعي عليه عيب كثير ) في حين كان البحتري وهو من رفاقه المعاصرين (يُلقي من كل قصيدة يعملها جميع مايرتاب به فخرج شعره مهذبا).
إن عملية إبدال كلمة مكان كلمة أخرى هي بلاشك فرع من فروع التهذيب وعملية من عمليات تحقيق الأشمل والأكثر إثارة أوالأبرع إحاطة بمستلزمات الانسجام الموسيقي الصوتي بين الحروف والكلمات، وهذا من حق الشاعر بشرط أن يبقى حريصا خلال هذه العملية على حيوية الجو الشعري الذي وُلد ساعة الإلهام او لحظة تفعيل المشاعر بمؤثر.
إن نمو الثروة اللغوية لدى الشاعر قد تخفف من جهود التنقيح ، فالذي يتمتع برصيد لغوي قد لايحتاج الى طول تأمل ، لأن المعاني حينما تجول برأسه هي نفسها التي تبحث عن الفاظها اللائقة لها ، فإن لم يسعف الرصيد اللغوي حاجتها ستحل في النص قلقة مضطربة.وربما يسعفه الرصيد خلال عملية الإبداع في خطرته الأولى فيأتي بالمفردة المناسبة في المحل المناسب كما حصل للشاعر الشريف الرضي مثلا في قوله من قصيدة( ياظبية البان ترعى في خمائله ....) فجاء بكلمة ( البان) وهو شجر معتدل ولين الأغصان يشبه قامات الملاح ، ولم يأت بكلمة ( الميْس)وهو شجر أيضا ولكنه صلب ، رغم ان البيت الشعري يبقى محافظا على وزنه في كلا الاستعمالين. وكما في قول احدهم :
لمــست بــكفي كـفه أبـــتغي الغنى
وما كنت أدري الجود من كفه يعدي
فجاء بـ (لمست) ولم يأت بـ(مسست ) مثلا ،لما في اللمس من دفئ وحركة وتحسس يفتقر اليها (المس).
وهكذا تستمر عملية إعادة النظر في النص في كل عصر من عصور الأدب ، وقد شهد عصرنا الحديث حركة تنقيح وتهذيب جادة ونشيطة من لدن شعراء كبار ، بغية تقديم نصوص تليق بشهرتهم ، منهم على سبيل المثال لاالحصر،قول معروف الرصافي من قصيدة له لامية :
هو الليل يغريه الأسى فيطول ويرخي وما غير الهموم سدول
هذا هو نص البيت في الديوان المنشور ، أما قبل النشر فكان ( هو الليل يُغر بي الأسى فيطول) فكانت إعادة نظر موفقة خلصنا فيها من ( يغر بي ). وللزهاوي من قصيدة له بعنوان ( المستنصرية) قوله :
أكلية العلم الذي كان روضه نظيرا كما شاء التقدم ناميا
وكان هذا قبل النشر وفي الديوان أصبح ( أجامعة العلم التي كان روضها).
وقد عُرف عن الجواهري انه كان يكتب على علبة سكاير او على غلاف كتاب لحظة الدفق الشعرية ثم يمارس بعدها مرحلة اعادة النظر ، فمن ذلك مثلا قوله :
فقد آلى وريدك أن يغني بحب الناس مانبض الوريد
اختاربعدها كلمة (بقي) التي هي اشمل وادوم لتحل محل (نبض).
وقوله: وقائلة أما لك من جديد أقول لها : القديم هو الجديد
اختار بعدها كلمة ( أعندك) لتحل محل ( اما لك) فاصبح صدر البيت(وقائلة أعندك من جديد) ولايخفى ان الصوت الموسيقي في حرفي العين والنون هو غيره في حرفي الميم واللام، ولايسعنا ذكر المزيد في مقال ، فما موجود من هذه الأمثلة يؤلف فيه كتابا او اكثر. وفي ضوء إعادة النظر في النص نخلص الى ما يأتي:
1 -إن التوغل القديم لعملية اعادة النظر يقدم لنا أنموذجا خالدا لشرف الكلمة في العمل الشعري الأصيل ، متمثلا ذلك في حرص الشاعر على وضع الكلمة المنتقاة في مكانها المناسب ، حرصا على صفاء البيان العربي وديمومة نقائه..
2- إن نسبة اهتمام الشعراء بضرورة التهذيب قد سجلت في مختلف العصور الأدبية رقما متميزا ، وهذا ما حوّل العملية التهذيبية الى حقيقة واقعة لابد ان يمارسها كل شاعر أصيل ينشد بناء مجد دائم التألق منذ خطواته الأولى.وقد أشار كثير من السلف الى ذلك في كتاباتهم، فكان من المضامين الأكثر تداولا مثلا قول القاضي الفاضل:
(إني رأيت انه لايكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده : لو غـُيّر هذا لكان أحسن ولو زِيد كذا لكان يُستحسن ولو قدِم هذا لكان أفضل ، ولو تـُرك هذا لكان أجمل ، وهذا من أعظم العبر ، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر..)
1084 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع