بدري نوئيل يوسف
في الذاكرة تبقى للحكايات الشعبية ذكريات لا تمحى، اتخذت لنفسها موقع الصدارة لأنها مستقرة في الأعماق، تبوأته منذ نعومة أظفارنا حيث يصعب إزاحتها عن المكان الذي اخذته الذاكرة، تلك الحكايات جعلتنا ندخل شيئاً فشيئاً في عالم الخيال، فمنذ أن بدأنا في نطق أولى الكلمات، أو فهم أولى العبارات من الذين يتولون تربيتنا وإعدادنا للحياة المقبلة، أو من المقربين منا فكنا نسقط الخيال على الواقع وعلى البيئة التي فتحنا أعيننا عليها.
الحكاية الشعبية لها راوي بدءاً من الأم أو الجدة أو اي شخص اخر يتطلب منه حنكة ودراية بفن السرد والتشويق بحركات اليدين أو تعابير الوجه، وتارة بتغير نغمة بالصوت، ولا يتوقف الامر على سرد الحكاية فهناك مقدمات وعبارات تمهيدية تقدمها الجدة او الراوي بتقليد اصوات الحيوانات أو الظواهر الطبيعية يستخدم ما نطلق عليه الآن في المسرح والفنون الأخرى اسم المؤثرات الصوتية .
هذه الحكاية حكتها جدتي كحادثة خرافية زمنها الماضي غير المحدد (في قديم الزمان) مكانها من نسج الخيال وشخصياتها بشرية خرافية ويسمح للحيوان والأشياء الاخرى بأن تظهر وتعمل وتشارك الإنسان في الأعمال والنوايا.
وتحمل هذه الحكاية في ثناياها، وعظاً، وتوجيهاً، ومغزى أخلاقيا ترمز الى أن الناس والمخلوقات الاخرى متعلقة بعضها بالبعض الاخر حتى ينتهي المطاف الى الله الخالق.
كنا نجلس حول منقل الفحم ونسمع ما تروي لنا جدتي (رحمه الله عليها) أو حول مدفئة نفطية (صوبة علاء الدين) ، ولا تشبه ايامنا هذه وكل فرد من أفراد العائلة يعيش بعالم منعزل يمارس فيه حياته كما يشاء ويعيش داخل عالمه الخاص، الابناء منشغلون بأجهزة الهاتف الذكية أو متابعة المباريات الرياضية، والأطفال الصغار بألعاب اجهزة اي باد، والبنت منشغلة بالحديث مع صديقاتها، والأب يتابع صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي، وربما يراجع اعماله، والأم تتابع المسلسلات او منهمكة في مناقشات حول قضايا تربية الأبناء على مدونتها أو صفحتها الفيسبوك.
ولكن أيام زمان عندما كانت العائلة خالية البال لا يَشْغلها شاغل، مطمئنة القلب لا يوجد تلفزيون ولا فضائيات ولا اجهزة ذكية، كنا نسمع الحكاية ونناقش مغزاها ولماذا حكيت، ترد في خاطري قصة ذلك الرجل المجنون وكيف أنه بدل شيئا بشيء حتى انتهى الامر به اخيرا الى الهلاك .
تقول جدتي : كان يا ما كان وعلى الله التكلان (أي الاتكال)، هذا ما كانت تقوله جدتي عند البدء بحكايتها ونحن ملتفين حولها ونسمعها بشغف تحكي حكايتها الرائعة ثم تضيف وتقول كل من عنده ذنب يقول التوبة واستغفر الله، في احد الايام اشترى رجل مجنون ديكا وسار به متبخترا فطار الديك وتبعه فإذا به يدخل في حزمة شوك ويختنق ويموت فوقف امام صاحب الشوك قائلا: اما الديك أو الشوك فخاف منه الرجل وأعطاه الشوك فسار الرجل يحمل الشوك قرب تنور خباز فطارت شرارة من التنور احرقت حزمة الشوك فتقدم الرجل المجنون من صاحب التنور وهو يقول له: أما التنور أو حزمة الشوك ففزع الرجل من غضب المجنون وأعطاه التنور لكي يخلص من شره، حمل الرجل التنور ومشى مسافة وبعد مدة من الزمن تعب الرجل وضع التنور على الارض وصادف مرور قطيع من الابقار
فهاجت احدى البقرات وجرت مسرعة باتجاه التنور واخذ نطحى قوية بقرونها وانكسر التنور فصرخ في وجه الراعي الذي اخذ يرتجف من خوفه رعبا من تصرفه وقال له: اما التنور أو البقرة فأعطاه البقرة وهو يرعد من الخوف ومن تصرف الرجل المجنون وقاد قطيع البقر بعيدا عن المجنون مسرعا لئلا يطلب منه اكثر أو يصيبه بأذى .
أخذ المجنون البقرة وسار حتى شارف ضواحي احدى القرى، وإذا بحفلة عرس فخمة اتقرب من المدعوين واندس بينهم مع بقرته ورافق دخول شخصان احدهما يضرب على الطبل والثاني على المزمار صاحبهما تصفيق وصياح عالي فأصاب البقرة فزع شديد وأخذت تجري مسرعة على غير هدى، وصادف اثناء جريها حفرة بعيدة الغور سقطت فيها وتكسرت عظامها وأخذت تلفظ انفاسها الاخيرة، عاد المجنون الى العروس وجرها من يدها وهو يصرخ اما البقرة أو العروس ولم يجازف احد التعرض له خوفا منه وسار أمامه وهي تتبعه خائفة حتى داهمهما الظلام، فرأى من بعيد كوخ فقصده وطلب من اهله المبيت فيه فأحسنوا ضيافته ورقد المجنون مع العروس وكانت فوقهما شمعة كبيرة تنير الغرفة وفي اثناء نومها تحرك احدهما ودفع الشمعة فسقطت على العروس فاحترقت وماتت، وهنا صاح المجنون اما العروس او الشمعة، فأعطاه المضيف الشمعة كما أراد فأخذها وانصرف حاملا إياها والليل لا يزال ضاربا اطنابه وبينما هو يسير في الطريق مر ببئر فظهر ظله والشمعة بيده فظن ذلك رجلا جاء يتحداه ويتعرض له فهجم عليه وسقط في البئر وغرق فيه هو وشمعته معه ونجا الناس من شره .
هذه الحكاية الخرافية تقدم التسلية والإفادة للأطفال ويؤثر الخيال الشعبي تأثيراً كبيراً في صياغتها، و تميزت من بأن أبطالها هم من البشر والحيوانات والجماد واعتمدت على رسم قوي لشخصية الرجل المجنون والوضوح والاكتفاء بالضروري من الكلام وحرصت على كسب ثقة المستمع لان احداث الحكاية لن تخرج على حدود اللامعقول والمستحيل .
نلتقي الاسبوع المقبل والحكاية الثانية بعون الله
4806 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع