إحسان الفقيه
عشرة أيام مضت على المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، ولا يزال الغموض ينجلي شيئا فشيئا، وتتضح خيوط المؤامرة يوما بعد يوم، بما يؤكد أن الكيان الموازي الذي يتزعمه فتح الله جولن المتورط في الانقلاب، كان مدعوما من قبل أطراف وقوى دولية.
الاتهامات الموجهة لأمريكا بالضلوع في الانقلاب قوية جدا، ولا يجب التعويل على نفي الإدارة الأمريكية علمها بالانقلاب أو التورط فيه، فقد سبق وأن فعلت الشيء نفسه حيال الانقلاب في مصر، إلا أن الدكتور محمد البرادعي المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية وأحد أعمدة كتلة 30 يونيو التي بنى عليها السيسي انقلابه، قد صرح بالتنسيق مع الأمريكان للانقلاب على الرئيس محمد مرسي.
اعترافات جنرالات الانقلاب أثناء التحقيقات، خاصة قائد منطقة هاتاي العسكرية، جاءت مؤكدة على أن الانقلاب تم توجيهه من قاعدة إنجيرليك بحضور ضباط أمريكيين.
وجاء بيان السفارة الأمريكية في تركيا صادما، حيث وصفت خلال البيان - الذي حذر الرعايا الأمريكيين - الوضع بأنه انتفاضة للجيش، ثم بعد تأكد فشل الانقلاب تغيرت النبرة، وصدرت البيانات الرسمية التي تدعم الحكومة التركية.
إذا ما ربطنا بين هذه المعطيات وبين موجة الهجوم على القيادة التركية في وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية، يقوى الاتجاه بأنها كانت مرحلة توطئة للانقلاب.
يضاف إلى ما سبق، تصريحات الساسة الأمريكان قبيل الانقلاب، منها مقال نشرته فورين بوليسي بعنوان "كيف نحل مشكلة مثل أردوغان؟"، لـ "جون حنا"، مستشار الأمن القومي لنائب الرئيس الأمريكي السابق "ديك تشيني"، قال فيه أن ردوغان يعتبر مصدر خطر يهدد تركيا والشرق الأوسط والاتحاد الأوروبي وأمريكا.
وقبل أسابيع من الانقلاب أكد الأكاديمي الأمريكي المتخصص بالعلوم العسكرية ميشيل روبين في مقال بأنه في حال حدوث انقلاب في تركيا، فإن أمريكا ربما لن تقف ضده في ضوء قراءته للواقع.
لن أستفيض في الأدلة التي تحدث عنها الخبراء والمحللون عن تورط أمريكا في الانقلاب، فما أود التركيز عليه في هذا المقام، علاقة فتح الله جولن بأمريكا، ولماذا يحظى بدعمها؟
من المثير للدهشة، الانتشار الواسع لمؤسسات حركة "خدمة" التي يتزعمها جولن، في حوالي 140 دولة في قارات العالم، فهي تمتلك عددا كبيرا من المؤسسات الإعلامية والثقافية والتجارية ، فلديها على سبيل المثال ما يزيد عن 1500 مؤسسة تعليمية، وحوالي 15 جامعة.
وسبب الدهشة أن هذا الانتشار بدأ منذ حوالي 40 سنة، أي في ظل سطوة الحكم العلماني في تركيا، وعلى الرغم من ذلك كان جولن يحظى بثناء قادة العلمانية في تركيا، علما بأن هذا ليس موقفها من أي تيار ذي صبغة إسلامية.
وفي أمريكا التي تحتضنه على أرضها، يحظى جولن باهتمام كبير في الأوساط السياسية والعلمية، وله العديد من الكراسي الأكاديمية في أمريكا ودول أخرى، وتعقد العديد من المؤتمرات لبحث أطروحاته ونظرياته الإصلاحية.
الرئيس الأسبق بيل كلينتون، ووزيرا الخارجية السابقان جيمس بكير ومادلين أولبرايت، كانوا ضمن الساسة الأمريكان الذين أثنوا على جولن.
فتح الله جولن صاحب توجه صوفي، وهو النموذج الإسلامي الذي تتطلع أمريكا لفرضه على العالم الإسلامي، لأنه يمرر فكرة التقارب بين الأديان وتذويب الفوارق بين العقائد، ومن ناحية أخرى لنأيه عن السياسة وحصر اهتمامه في الجانب الروحي.
زاد الاهتمام الأمريكي بهذا التوجه بعد أحداث 11 سبتمبر، لرغبة أمريكا في تصعيد هذا النموذج لمواجهة ما يسمى بالأصولية الإسلامية، كان جولن ضمن أبرز شخصيات هذا التوجه التي اهتمت بها الإدارة الأمريكية.
مؤسسة راند التي يعتمد عليها صناع القرار الأمريكي، أصدرت تقريرا بعنوان "بناء شبكات مسلمة معتدلة"، تكشف فيه سبب اهتمام أمريكا بـ جولن، بعد أن اعتبرته أحد الشركاء المرتقبين، جاء في التقرير:
"يشجع القائد الديني التركي (فتح الله جولن) الإسلام الصوفي الحديث المعتدل، حيث إنه يعارض تنفيذ الدولة للقانون الإسلامي، مشيراً إلى أن معظم اللوائح الإسلامية تتعلق بالحياة الخاصة للأفراد ويهتم القليل منها بأمور الحكم، فالدولة كما يعتقد هو لا ينبغي أن تطبق أو تنفذ الشريعة الإسلامية؛ لأن الدين مسألة شخصية، فقوانين ومتطلبات عقيدة بعينها لا ينبغي أن يتم فرضها على السكان ككل".
إذن النموذج الذي ترغب فيه أمريكا والذي تنطبق مواصفاته على جولن، هو ما يبتعد عن فكرة أن الإسلام دين ودولة، ويرى أن الدين مسألة شخصية، وهو الشيء ذاته الذي يقبله العلمانيون، فحركة جولن يمكن القول بأنها تتماهى مع التوجهات الأمريكية ولا تتعارض مع النسق العلماني، ربما يفسر هذا سبب تسهيل انتشار حركته في معظم دول العالم.
أمريكا أدركت أن العدالة والتنمية قد أعاد تركيا إلى أحضان الأمة الإسلامية، ويسعى لأسلمة تركيا وفق منهج تدرجي يراعي الواقع، وأنه ليس النموذج الذي يتوافق مع مصالحها، لذا من الطبيعي أن تدعم انقلابا يطيح بأردوغان وفريقه، ولم تجد سوى مد يدها إلى كيان فتح الله جولن الذي تغلغل في جميع مؤسسات الدولة.
بقي القول أن أمريكا غالبا لن تسلم جولن إلى تركيا، رغم امتلاك الأخيرة أوراقا كثيرة للضغط عليها، نظرا لأن ذلك الإجراء ينزع الثقة عن أمريكا لدى عملائها، وربما تتجه لتسريبه إلى دولة أخرى لا تلتزم بتسليمه، ومن وجهة نظري ربما تكون هي مصر، والتي يعادي نظامها الحالي القيادة التركية.
وقد بدأ الإعلام الموالي لنظام السيسي مؤخرا الدعوة إلى استضافة كولن لاستخدامه كورقة ضغط على الأتراك، فربما يكون هناك تنسيق ما جرى بين الجانبين الأمريكي والمصري في هذا الشأن، وتوطد له وسائل إعلام السيسي.
745 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع