بدري نوئيل يوسف
تقول جدتي كان في مدينتا كاهن كبير في السن ذو لحية كثة، وله صديق إمام احد الجوامع كذلك لحيته معتدلة مشربة بسواد، يسكنان متجاوران، تلقاهما وقت الفراغ معا يتسامران ويتشاركان الطعام محبوبان من ابناء المدينة يساعدان الفقير، ولا تشعر في أي يوم انها من دينّان مختلفان يحبان المزح والضحك .
في احد الامسيات طلب الإمام من الكاهن ان يعد له عدد اعياد المسيحيين، لكن الكاهن عرض عليه فكرة ان يتراهنان على شرط مقابل كل عيد يسحب شعرة من لحية الاخر عند ذكر اسم العيد، اتفقا وبدا الإمام يعد اعياد المسلمين الواحد تلو الاخر ويسحب شعرة من لحية الكاهن مقابل كل عيد وهكذا وصل العدد الى عشرين او اكثر وتوقف، وجاء دور الكاهن وبدأ يعد اعياد القديسين الذين يعدون بالمئات ويسحب شعرة من لحية الامام مقابل كل عيد ، وأخيرا مسك الكاهن لحية الامام بالكامل بكفه وسحبها قائلا له هذا عيد جميع القديسين، هكذا كانت ايام الزمن الجميل في مدينتنا.
تحدثنا جدتي قالت: كنت عند جارتنا أم أبو البنات والتي مقتنعة بموروث شعبي عراقي حيث نرى العجائز يقمن بهذا العمل وهو أبره وگاغد ( الچكچك). فهي مازالت تشعر ان ابنها مسحور أو محسود ولهذا خلفَتَه كلها بنات ، فقد احضرت گاغد (ورقة) وأبره وكتبت أسم أبنها وأسمها على الگاغد وتقوم الام بمليء الگاغد بالثقوب حتى تصل الى مائة وواحد ثقب ومع كل ثقب تقرأ أو تذكر أسم ما أو دعاء معين وبعد الانتهاء حرقت الگاغد وهي تعتقد بدفع السحر أو الحسد أو الضرر عن ابنها المتضرر وتبتعد عنه العين الحاسده وترجع له الصحة والعافية والسعادة لأنه مصاب بعين خبيثة حاسده ويقدر أن يخلف ولدان، وتسمى هذه العملية (ابره وكاغد التچكچك).
بعد هذه الحكايات القصيرة طلبنا من جدتي ان تحكي لنا حكاية اليوم، ابتسمت وقالت :
كان في قديم الزمان رجل عنده زوجة وولد وبنت، وعندهم بقرة صغيرة صفراء اللون كان الولدان يرعيانها ويحبانها وتحبهما وهما متعلقان بها كثيراً، ماتت زوجة الرجل فتزوج امرأة أخرى لكنها بدت شريرة لا تحب الأولاد، وتكره الولد والبقرة خاصة، فأخذت تكيد لهما وتفكر في طريقة للتخلّص منهما ومن البقرة.
في يوم من الأيام جعلت نفسها مريضة، وأرسلت بطلب أحد الأطباء من أصحابها ليعالجها، فطلبت منه أن يوصف لها لحم البقرة الصفراء، وأنها لا تشفى حتى تأكل من لحمها، وتدهن جسمها بدمها، وكان ذلك فبعد أن فحصها الطبيب وصف لها أمام الجميع لحم البقرة ودهن جسمها بدمها، وبين لهم أنه لا دواء لها غيره، ورغم معارضة الأولاد وحزنهم الشديد على البقرة وافقوا مضطرين عليه، فذبح الرجل البقرة وأكلت المرأة من لحمها ودهنت من دمها، وبعد قليل ادّعت أنّها شفيت من المرض، وقامت مثل الغزالة ففرح الأب بشفائها.
بقي همها الوحيد الولد (حطّت برأسها يا هو يا هي بالبيت )، لكن الأب تمسك بولده الوحيد، ولم يضحّي به من أجل زوجته، فذهبت المرأة إلى عند ساحرة شريرة، فصنعت لها سحراً وكتبت للأب والولد، فصار الرجل يكره ابنه ولم يعد يطيق رؤيته.
وفي يوم عملت نفسها مريضة أيضاً وأخذت تتدلل على رجلها، وتتغنّج عليه ومنعته أن يقرب منها، فصار يراضيها ويسألها عن طلباتها وينفذها لها لترضى عليه، وعندما تمكنت منه طلبت منه أن يذبح ابنه ويطعمها من لحمه، فقام الرجل وذبح ولده فطبخته وأكلت من لحمة، وتركت عظامه ورمتها في الحديقة، رأتها أخته فصارت تبكي، ولمّت عظامه وهي حزينة عليه، وضعتهم داخل كيس وحفرت حفرة في الحديقة ودفنتها، وأصبحت كل يوم تسقي العظام وتبكي على أخيها، مضت سبعة أيام على هذا الحال، وإذ يخرج من الحفرة طير أخضر صغير، أحلى من كل الطيور، دار بالحديقة من شجرة لشجرة، وصار يزقزق ويناغي بألحان حزينة، وحط أخيراً على شباك غرفة أخته وصار يغني:
" كوكو ...كوكو أنا الطير الأخضر والذي مزين المحضر ، أبوي ذبحني وخالتي أكلت لحمي، أختي الحنونة لملمت عظامي وحطتهم بكيس خامي، بعد سبعة أيام صرت طير أطير بالبلداني."
سمعته أخته وعرفت أنه أخوها فقربت منه ، وصارت تلمّس ريشه، ودموعها تنزل غزيرة من عيونها مثل المطر من حزنها عليه، طار بعيد عنها ورجع ومعه قلادة من ذهب ورماها على أخته، أخذتها ولبستها وصارت مثل العروس. رأت خالتها بعينيها ما حدث للبنت، فانزعجت وحسدتها وطمعت بقلادة مثلها .
في اليوم التالي وقف الطير على الشباك وصار يغني أغنيته، أتت خالته وصارت تلمّس ريشه، فطار بعيداً ورجع ومعه إبرة مسمومة، ورماها عليها فجاءت برقبتها وماتت في الحال، وبقي الطير كل يوم يقف على الشباك ويغني أغنية لأخته، ويرمي إليها الهدايا من الحلي والجواهر، وهي فرحانة وسعيدة به.
نلتقي في حكاية جديدة من حكايات جدتي .
4539 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع