محمد ضياء العقابي
عهدتُ الدكتور علي بابان، عبر مقالاته القيمة، رجلاً علمياً وموضوعياً.
في هذه المقالة(1) أعتقد أنه إبتعد عن القراءة الموضوعية بقدر معين وإفتقد إلى العمق اللازم في تناول قضية إحتمال تقسيم العراق وتحديداً فيما يخص السبب الكامن وراء هذا الإحتمال.
فهو يقول بالحرف الواحد:
[هؤلاء الحالمون على ثلاثة أصناف (بقدر كانتونات العراق المفترضة..)..
فريق يحلم بدولة رخاء تستأثر بعائدات النفط وتطل على الخليج، تحفظ خصوصية أهلها العقيدية والثقافية ، وتعوضهم قرونا من "المظلومية" و"المحرومية" ...!!!؟
وفريق يحلم بدولة تعيد أيام العز والسلطة الخوالي لأصحابها وترتبط بمحيطها العربي خصوصا بعد أن ينتهي الإعصار السوري وتتضح نتائجه...
أما الفريق الثالث فيرى في الوضع الحالي "فرصة العمر" لإقامة دولته حيث " لكل أعراق الأرض كيانات ودول إلا (نحن)"...!!! وهذا الفريق يتبع استراتيجية "بركة يا جامع" بقصتها المعروفة.]
بادئ ذي بدء، لابد من توضيح المقاربة المعتمدة في التحليل. أنا لا أقسّم المجتمع العراقي على أساس "السنة والشيعة والأكراد" وإنما أقسٍّمه على أساس "ديمقراطيون ولا ديمقراطيون" وكلا الفريقين يضمان خليطاً من المواطنين من جميع مكونات الشعب العراقي ولكن بنسب متفاوتة. إن المجتمع العراقي لم يغادر عتبة هذا التقسيم، بعد، لندخل في خصوصيات العلاقات حسب المكونات. مازلنا في حلبة "قبول أو رفض الديمقراطية" إلا في العلاقة مع الأكراد وهم من مؤسسي النظام الديمقراطي في العراق، ولكن بدايات مرحلة جديدة دخلت الميدان وطابعها سياسي أكثر مما هو إثني.
يمثل الديمقراطيون النسبة الأكبر من سكان العراق على عكس اللاديمقراطيين الذين أسميتُهم بـ"الطغمويين" وقلتُ عنهم إنهم لملوم من كافة المكونات [راجع الهامش (2) أدناه رجاءً لمزيد من البحث في الطغمويين والنظم الطغموية.]
على أنني لستُ غافلاً عن حقيقة نجاح الطغمويين في الوقوف على رأس أغلب مواطني المكون السني العربي لفترة غير قصيرة بسبب القمع الذي مارسوه على الجماهير السنية العربية ولإنخداع البعض بهم. ولكن هذا النجاح مؤقت وغير محسوم وقد تشهد نهاية التظاهرات والعصيان الحالي في الرمادي حسماً، بنفس الوقت، للموضوع أي هل سيحصل طلاق كامل بين السنة العرب وبين الطغمويين (وهو ما أتمناه وأتوقعه) أم هل ستتعزز هيمنة وقيادة الطغمويين على غالبية أهل السنة وهنا يتطابق السنة مع الطغمويين وقد يقع طلاق بين الديمقراطيين والسنة؟
مع هذا فقد دأبتُ، وسأستمر حتى يحصل الحسم، على إعتبار المواقف المنسوبة إلى السنة العرب في العراق هي مواقف الطغمويين وليست مواقف السنة المغلوب على أمرهم حتى حلول الحسم بهذا الإتجاه أو ذاك.
أول ملاحظة لي على مقال الدكتور بابان هي وضعه علامتي التشكك والإستغراب، أي "....!!!"، في غير محلهما،عند طرحه ما إعتبرها دوافع الشيعة نحو التقسيم.
فقد إفترض الدكتور أمراً فيما يخص الشيعة وأبدى إستغرابه مما إفترضه. لقد إفترض أن إندفاع الشيعة نحو التقسيم الذي سوَّغه الحلم [... بدولة رخاء تستأثر بعائدات النفط وتطل على الخليج، تحفظ خصوصية أهلها العقيدية والثقافية، وتعوضهم قرونا من "المظلومية" و"المحرومية" ...!!!؟] هو أحد ثلاث أسباب لتقسيم العراق المحتمل.
بينما لا أرى ذلك بدلالة رفض الجماهير الشيعية لفكرة إقليم البصرة عند طرحه على الإستفتاء قبل عدة سنوات. فإرتفاع نغمة "التقسيم" لدى بعض الشيعة لم يحصل إلا بعد يأسهم من إمكانية قبول الآخر بهم وبإمكانية العيش المشترك بسلام وطمأنينة. إنهم، والأكراد، قدموا حلاً حضارياً كصيغة للتعايش المشترك بين مكونات الشعب العراقي تجسد في خلق دولة بنظام ديمقراطي فيدرالي تقوم على إحترام حقوق الإنسان وفق المعايير الدولية، رغم الصعوبات المتوقعة في التطبيق لكنها لا ولم تبلغ درجة الإستعصاء. وهو أمر لم يحصل من قبل في تأريخ العراق القديم والمتوسط والحديث.
فماذا كان الجواب؟ رفضٌ تام للآخر ولحله الحضاري تجلى بموجة من القتل الإرهابي الذي بلغ عشرات الآلاف من الأبرياء، وتخريب متواصل من داخل العملية السياسية بهدف تدميرها.
ولما أوشكت السلطة المنتخبة على النجاح في وضع حد للإرهاب وفرض سيادة الدستور والقانون والعدالة، دفع الطغمويون والتكفيريون بنسبة من أهالي الرمادي والموصل وكركوك وصلاح الدين وديالى للتظاهر والعصيان بإتجاه لا يخفى على أحد بنَفَسِه التقسيمي وعزمه على العودة اللاحقة للإقتتال لتحقيق شعار "بغداد إلنه أوماننطيها" بعد ترتيب الأوضاع التنظيمية مع شركات النفط والسعودية وتركيا وقطر وأخيراً سوريا والأردن (إذا وقعتا بيد جبهة النصرة ).
وبدل أن يشك الدكتور علي بمظلومية ومحرومية الشيعة (بوضع الكلمتين بين قويسين "...") اللتين تعرض الشيعة لهما طيلة العهود الطغموية بدرجات متفاوتة من عهد لعهد حتى بلغت أشدها في عهد النظام البعثي الطغموي حينما إعتبر النظام ممارستهما أمراً إعتيادياً تماماً وتتحمل المزيد، فرفع من سقفيهما وأصبحت سياسته الرسمية الممنهجة المبرمجة، ولو خِفْيةً، هي التطهير الطائفي للشيعة والعرقي للأكراد والتركمان والآخرين قاصداً من وراء ذلك، في أحسن الإفتراضات، خلق مجتمع أحادي القومية والدين والمذهب والعقيدة السياسية والحزب أي (monolithic society) لتحرير فلسطين وتوحيد الأمة العربية!!!
أقول بدل ذلك كان حرياً بالدكتور علي أن يسخَر من ذلك الفريق الذي "يحلم بدولة تعيد أيام العز" وهو الفريق الطغموي ولا أقول الفريق السني. أيُّ عزٍّ هذا الذي يحلمون به؟ هل هو عز إذلال الآخرين وضربهم بالسلاح الكيميائي والطائرات لمصالح طبقية ضيقة إن لم يكن لمشيئة فرد يقود قطيعاً من النعاج؟
نعم إنهم مصرون على إستعادة حكمهم المفقود بأية وسيلة كانت سواءً بالإرهاب أو بالتخريب أو بكليهما لإستعادة منافعهم المادية والمعنوية؛ وهذا هو جوهر الأزمة العراقية وكل ما خلاه ثانوي ومتفرع من هذا الأصل.
أما بالنسبة للفريق الثالث الكردي، فلا أرى ضيراً في أن [يرى في الوضع الحالي "فرصة العمر" لإقامة دولته] على حد تعبير الدكتور بابان. فحق تقرير المصير حق كفلته الشرائع الدولية. أما النقد الذي أوجهه لتوجه حكومة الإقليم وخاصة الرئيس مسعود البرزاني والحزب الديمقراطي الكردستاني فيتركز على سلوك طريق معوج في محاولة تحقيق الأماني القومية للشعب الكردي. إنهم تحالفوا مع الطغمويين الشوفينيين ومع شركات النفط التي تريد فرض صيغة "المشاركة في الإنتاج" بدل صيغة "عقود خدمة" ومع تركيا والسعودية وقطر وكلهم ذوو مصلحة في إبقاء العراق ضعيفاً متناحراً تعصف به الأزمات. أعتقد أن هذا السبيل مضر بمصالح الشعب الكردي نفسه.
بقي علي أن أقول كلمة حول الظروف التي شجعت الطغمويين والحزب الديمقراطي الكردستاني على بلوغ مرحلة تهديد وحدة العراق.
السبب الرئيسي هو ما سبق أن ذكرتُه سلفاً من أن إصرار الطغمويين على رفض الآخر ومحاولة إستعادة سلطتهم بأية وسيلة هو السبب الجوهري.
أما السبب الآخر، وهو مهم أيضاً، فيتمثل بإخفاق النخب الثقافية والسياسية العراقية، ضمن منظمات المجتمع المدني أو إنفراداً، في القيام بواجبهم في أن يكونوا معياراً موضوعياً مهاباً ومحترماً لدى الجماهير تسترشد به عند تشكيل مواقفها من هذه القضية أو تلك أو هذه الجهة أو تلك فتنقلها إلى صناديق الإقتراع لتكافئ هذا وتعاقب ذاك وبذلك يحقق الرأي العام ممارسة الرقابة والفرز والإختيار الصائب فتنضج العملية السياسية ويحسب المسيء ألف حساب قبل إقدامه على التخريب كالتقسيم.
بينما أثبتت النخب، للأسف، كونها مؤدلجة وخاضعة لنظرات ومواقف مسبقة أو مصالح ضيقة فضللت الشعب ونفعت الطغمويين بلعب دور المشوش الذي أصبح حمالة الحطب لفبركاتهم وتشويهاتهم والتسقيط السياسي. إفتقدت هذه النخب إلى الشجاعة في إتخاذ المواقف المستقلة الأصيلة والموضوعية والوقوف بجانب الحق والعدالة وآثروا التوزيع المفتعل للآثام ولمرات الإستهانة بالدستور على الجميع بالتساوي فساووا بين المجرم والضحية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): يمكن الإطلاع على مقال الدكتور علي بابان المعنون:
"تقسيم العراق.... الهمس الذي بات ضجيجاً" على الرابط التالي:
http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=23949
(2): للإطلاع على "النظم الطغموية حكمتْ العراق منذ تأسيسه" و "الطائفية" و "الوطنية" راجع أحد الروابط التالية رجاءً:
-http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=14181
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=298995
http://www.baghdadtimes.net/Arabic/?sid=96305
1023 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع