للتاريخ والعبرة ( أوراق شخصية )الحلقة الثانية/الزيارة الأولى وليست الأخيرة
حين يكتب المرء عن فترة من فترات حياته فانه لا يستطيع بأي حال من الأحوال أن ينفك عن الواقع المحيط به وحركة الحياة العامة ذلك لأننا أبناء مجتمع ٍ يـُؤثر ويتأثر فينا مجتمع ٍ حي ٌتنبض شرايينه وما تحمله منٍ تسارع ٍٍ للإحداث التي تحمل في طياتها كل جديد قد ينطوي على مفاجآت ٍ لم تكن بالحسبان .
لذا سوف أعود بأوراقي إلى عام 1980 م حيث شهد هذا العام وقبل رحيله بثلاثة أشهر أي في شهر أيلول دوي الانفجارت وهدير الدبابات وطلاقات المدافع وتحليق ٌ لطائرات ٍ تشق عنان السماء وكل ذلك ليس ابتهاجاً باحتفالات أو مهرجانات أو أعياد بل هي الحرب نعم الحرب التي صدح بها المذياع والقناة الواحدة للتلفاز يبشرنا بان الحرب قد بدأت وطبولها قـُرعت وأبواب الجحيم قد فـُــتحت وأن الأمجاد تنتظرنا على طرقات عـُبدت بدماء قد نزفت ولن يتوقف نهرالدماء إلى وقد امتلأت به الوديان وتضج به الأرض والسموات .
هكذا بدأت دورة الأيام تدور حتى سمعنا بالحي الذي نقطنه بان جارنا ( ك ) قد أصيب بإحدى المعارك المحتدمة وسوف يقوم أهل المحلة بزيارته في مستشفى الرشيد العسكري وفعلاً ذهبنا إلى هناك ولأول مرة في حياتي أرى أجسادٍ قد قـُطعت أوصالها فاقدة اليدين أو الساقين أو ذاك قد فــُقعت عينيه وذاك قد شـُلت قدميه وغيرهم من شباب ٍ لا ينقطع صوت أنينهم بعد غادرهم الفرح والمرح وباتوا ينتظرون قادم الأيام وقد تغير شكلهم ولونهم مع تغير شكل ولون الأيام
نفسها .
دخلنا الردهة التي يرقد ُ بها جارنا ذاك الشاب البطل الذي كنا نحن الذين اصغر
منه سناً نتطلع إليه وهو يعمل ويكد لأجل أهله والعزيمة والقوة بادية على قسمات وجهه وبإرادة لا تلين ويوم تم استدعاءه لخدمة العلم ( الجيش ) ولا أدري لماذا تم حصر خدمة الوطن بالجيش فقط دون المجالات الأخرى ، المهم وجد ( ك ) نفسه في فصيل القوات الخاصة يرتدي الملابس المرقطة وعلامات الصاعقة والعقارب وغيرها على كتفه فكنا نراه وكأنه واحداً من الإبطال الذين نقراء عنهم خصوصاً الفدائيون الذين كنا نسمع عن بطولاتهم وأفعالهم
الخارقة التي كانت وسائل الإعلام تطنب بالحديث عنها حتى تصورنا بان رايات التحرير سوف ترفع اليوم أو غداً بالكثير فوق ربى الأرض المسلوبة.
بعد أن تجاوزنا بعض الجرحى وجدنا ( ك ) أمامنا ممدداً على سرير قديم يضع ُيده الشمال تحت رأسه فالتفت ُ فإذا بي أرى دموع أبيه قد نزلت على خديه وهو ذلك الشيخ الوقور ذو القلب الكبيرالصبور الذي كنا نكن له المحبة ونحترمه لما يملكه من خصال ٍ كريمة وعاطفة جياشة ٍ ونخوة أصيلة ، نعم رأيت أم ( ك ) تفترش الأرض وهي تكتم صرختها وأبناءها يحاولون إسكاتها هنا تحرك الغطاء عن الجسد الممدد تحته لأرى البطل الجريح فإذا بي أفاجأ بأن يده اليمنى غير موجودة وإنها قد قطعت ولم يستطع بعدها أن يمد يده للسلام على احد ٍ أو يتناول كوب الماء أو يأكل بها أو يعمل بها أو يحمل طفله أو يستخدم الحمام أو أو ...............؟
طوال الوقت الذي استغرقتاه بعودتنا من هذه الزيارة كانت الأسئلة تتزاحم في رأسي وصورة جارنا وحديثه عن المعارك والأهوال التي صادفتهم وعاشوها لم تفارقني وأتصور نفسي أو أحد أخوتي أو كل شاب ٍ عراقي ٍ ينتظره نفس المصير وأن زيارتي الأولى لمستشفى الرشيد العسكري ربما لن تكون الأخيرة.
أسئلة عديدة لم يوقظني منها إلا صوت أطلاق ٍ للنيران من مدافع ٍ مقاومة للطائرات مزروعة على الطريق تصوب نيرانها لطائرة محلقة بالجو تحاول أن ترمي حممها وصواريخها وقنابلها على الأرض، نزلنا من السيارة مسرعين نحاول أن نجد مكاناً نختبئ به من هذه النيران التي أشتعل بها الجو وممكن
أن تحولنا في لحظات من عالم الإحياء إلى عالم الأموات.
قبل أن أسدل الستار على هذه الورقة أجد ُمن الإنصاف أن أذكر بان الاهتمام والرعاية والعناية بالجرحى كانت جيدة جداً في وقتها وفرق الأطباء والكوادر الطبية رغم قلتها أو عدم تعاملها مع حالات الطوارئ والإحداث المتسارعة لكن هذه النخبة من أبناء العراق عملت واجتهدت وواصلت الليل بالنهار لمعالجة الموقف الإنساني والصحي للمصابين الذين أخذ عددهم يكبر ويتكاثر .
لقد كانت الحرب في بدايتها والشحن العاطفي والوجداني والوطني كبير جداً وتسخير الدولة لكافة الأجهزة والمؤسسات والإفراد على أشده وأصبح لباس الجيش ولونه الخاكي منتشر ٌ في كل مكان .
لكن السؤال هنا هل استمر الدعم والرعاية بالجرحى والمعاقين منهم على وجه الخصوص إلى النهاية ؟؟
هذا وغيره ما سنحاول الإجابة عليه بالقرائن والحقائق وسرد الذكريات التي من المؤكد يشاركنا فيها الكثيرين من أبناء تلك الحقبة الزمنية وما حملته من إحداث ووقائع والحمد لله إننا أحياء ٌ وما نقوله يشهد ُ عليه أحياء يرزقون. وللحديث بقية أن كان في العمر بقية بإذن الله تعالى.
636 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع