بقلم احمد فخري
الحلقة الرابعة (قصة حوالة الزوجة)
في عام 1976 رجعت الى العراق للقاء الاهل وقضاء عطلة رأس السنة والتي كانت مدتها 3 اسابيع، في بغداد شائت الظروف ان التقيت باحدى اقاربي فتزوجتها في حينها ثم انتظرتْ حتى صيف من تلك السنة كي تلتحق بي بلندن. حالما وصلت زوجتي لاحظنا ان هناك حاجة ماسة للمال وذلك لاني كنت استلم الحوالات المالية المسموح بها في ذلك الوقت وهي 100 دينار عراقي شهرياً إذ كانت بالكاد تكفي لشخص واحد. وهو المبلغ المسموح به للطالب على نفقته الخاصة، لذا كانت الظروف جداً صعبة. في تلك السنة سمعنا ان وزارة التعليم العالي سمحت لطلاب النفقة الخاصة باستلام مبلغ 50 دينار اضافي سميت بحوالة الزوجة. لذا استأذنت من الجامعة ليوم واحد كي اذهب بنفسي واستفسر من الملحقية الثقافية عن شروط تلك الحوالة الاضافية. في الملحقية ذهبت الى الطابق الاول حيث مكتب معاون الملحق الثقافي وكان وجه لم يسبق لي رؤيته. نقرت الباب فاذن لي بالدخول، حييته واستقبلني الرجل احسن استقبال فقد كان انساناً خلوقاً مهذباً لابعد الحدود إذ قال،
معاون الملحق: تفضل ابني.
- استاذ انا طالب على نفقتي الخاصة، وقد تزوجت قبل فترة قصيرة والتحقت بي زوجتي. مؤخراً سمعت ان هناك حوالة تسمى حوالة الزوجة فهل هذا صحيح سيدي؟
معاون الملحق: نعم يا ابني لقد صدر بها قانون هذا العام.
- وما هي شروط تلك الحوالة؟
معاون الملحق: يجب عليك ان تأتي بشهادة من جامعتك تؤيد بانك لازلت مستمراً بدراستك وان تكون مصدقة من قبل وزارة التعليم العالي البريطاني، وتجلب معك عقد الزواج وصورة منه وجواز سفرك وجواز سفر الزوجة مع صور منهما.
- شكراً سيدي. واين يتم التقديم؟
معاون الملحق: بعد ان تأتي بهذه الوثائق تأخذها عند قسم ملفات الطلاب بالطابق السفلي وسيقوموا باجراء اللازم.
- شكراً لك سيدي.
رجعت الى البيت وسألت زوجتي عن هذه الوثائق فاخبرتني بانها لم تحضر معها عقد الزواج الى لندن. لذا قمت بكتابة رسالة للوالدة ببغداد كي تبعث لي عقد الزواج على جناح السرعة.
وبعد بضعة اسابيع وصل عقد الزواج. فتوجهت مباشرة الى ادارة الجامعة وطلبت منهم تزويدي بشهادة الدوام على الدراسة فاخبروني بان الشهادة ستكون جاهزة في اليوم التالي وقمت كذلك بطلب اجازة مغيب لمدة يوم واحد كي اقوم ببعض الاجراءات بسفارة بلدي.
في اليوم التالي ذهبت الى الجامعة وحالما دخلت الى الادارة كانت الشهادة تنتظرني كما وعدوني، اخذتها وانطلقت بها الى وزارة التعليم العالي بمنطقة ووترلو. سلمت الشهادة في الاستعلامات فاخبروني بانها ستكون جاهزة بغضون ساعة واحدة. وكما قالوا لي بالضبط رجعت بعد ساعة كاملة وجدت الشهادة مصدقة وتنتظرني عند الاستعلامات. اخذتها وانطلقت بها الى الملحقية الثقافية بمنطقة كنزنغتون. عند وصولي هناك سألت موظف الاستعلامات عن اجراءات حوالة الزوجة فاخبرني بالهبوط الى الطابق السفلي. نزلت الى الطابق السفلي فوجدت غرفتين فقط، دخلت على احداها فوجدت فيها موظفة عراقية بدينة البنية جالسة خلف مكتبها. حييتها وسألتها عن اجراءات حوالة الزوجة فتظرت الي وقالت "بالغرفي الثانية عند السيد العاني" (لقد نسيت اسمه الاول دعني اسميه قيس العاني). شكرتها وخرجت من غرفتها قاصداً الغرفة الثانية الا اني لم اجد احداً بالغرفة الثانية. رجعت الى الموظفة التي بالغرفة الاولى وقلت لها بان الغرفة الثانيه فارغة. قالت بامكانك الانتظار خارج الغرفة حتى يعود السيد قيس العاني. جلست على احدى الكراسي الخشبية خارج غرفة قيس العاني. بقيت جالساً هناك لعدة ساعات الا ان قيس العاني لم يحضر. وقبل انتهاء الدوام الرسمي ببضع دقائق رجعت الى الموظفة في الغرفة الاولى وقلت لها،
- استاذ قيس العاني لم يحضر فما العمل؟
الموظفة : مو مشكلة بامكانك العودة غداً.
- لكني سيدتي كنت قد اخذت اجازة خاصة لاجراء المعاملة من الجامعة وسوف افقد الكثير من المحاضرات.
الموظفة : بكيفك لعد لتجي.
- لكني محتاج لتلك المعاملة.
الموظفة : حيرتني معاك اذاً تعال غداً وسوف يقوم الاستاذ قيس باجراء اللازم.
- حسناً اختي شكراً لك.
خرجت من مكتبها وانا اشتعل غيضاً. إذاً يجب علي الذهاب الآن الى الجامعة لكي احضر ما تبقى من محاضرات اليوم واطلب اجازة ثانية للغد كي اتمكن من متابعة المعاملة.
باليوم الثاني ذهبت مباشرة الى الملحقية الثقافية مع بداية الدوام الرسمي وهبطت الى الطابق السفلي علني اجد المسمى قيس العاني الا اني وجدت الموظفة البدينة نفسها ولكن قيس العاني لم يكن موجوداً في مكتبه. سألت الموظفة عنه فقالت بامكانك انتظاره خارج مكتبه.
- لكني انتظرته بالامس ولم يحضر؟
الموظفة : هذا صحيح فالبارحة كان قد ذهب للمطار لاستقبال وفد من بغداد. اما اليوم فسوف يأتي بالتأكيد. ما عليك سوى انتظاره خارج غرفته.
- وماذا لو لم يأتي اليوم كذلك؟
الموظفة : لا لا مستحيل انه آتي بالتأكيد فقط عليك ان تنتظره هناك.
انتظرت الموظف قيس لمدة نصف ساعة اخرى واذا بي اسمع اصوات اقدام تهبط على السلم الى الطابق السفلي فاستبشرت خيراً. وحالما صار بالطابق السفلي دخل الى مكتبه فتبعته مباشرة الا ان هاتفه كان يرن فرفع السماعة واشار الي بالخروج بطريقة مهينة كانه يطرد خادمه الى الخارج. مع ذلك تحملتها وخرجت كي افسح له المجال حتى يتكلم بالهاتف بحرية. لكن حديثه كان مسموع عندي حتى وان كنت خارج الغرفة. كان يتكلم كلام ليس له اي صلة بالعمل. فقد سمعته يحكي قصة تجربته لاحدى المطاعم الايرانية وكيف انه وجد الطعام شهياً والاسعار متهاونة والمطعم بداخله تنور ويخرج الخبز طازجاً وووو.
كنت اسمع ذلك وانظر الى ساعتي فاجد الوقت يسير بسرعة غير عادية. كنت انتظر منه ان يستدعيني بعد ان اكمل المكالمة الهاتفية الا انه لم يفعل ذلك. فقررت ان ادخل اليه بدون اذنه كي اتحدث معه.
- السلام عليكم استاذ قيس.
قيس : شكو مو ذبحتني؟ شبيك من الصباحيات؟ بعدنا يا فتاح يا رزاق
- سيدي لقد جئت بخصوص حوالة الزوجة لطلاب النفقة الخاصة. واحضرت معي شهادة من الجامعة مصدقة من التعليم العالي البريطاني وعقد الزواج وجوازات سفري وسفر زوجتي مع صور منهم.
قيس : متصير ياللا اطلع من مكتبي عندي شغل هواية
- استاذ ارجوك ليش متصير؟
قيس : داكلك متصير، لان الاوراق ناقصة
- ارجوك استاذ قيس خبرني بالاوراق الناقصة حتى احوال اجيبها
قيس : اسمع يا غبي، اولاً يلزمك شهادة من الجامعة مصدقة من التعليم العالي البريطاني وعقد الزواج وجوازات سفرك وسفر زوجتك مع صور منهم.
- لعد شدا احجي وياك؟ فرنسي؟ مو كتلك كل هذه الاوراق جبتها ويايا.
هنا شعر قيس باني قد هنته عندما قلت له (شدا احجي وياك؟ فرنسي؟). انتفظ من كرسيه ووقف امامي وباعلى صوته صار يرشقني بوابل من السباب من النوع الثقيل الذي لم اتلفظ به في حياتي ولم يستثني فيه لا ام ولا اخت ولا عشيرة. وبعد لحظات اصبح مكتبه مليء بالموظفين على اثر صراخه المرتفع.
عندما سمعت هذا الكلام البذيء ثارت ثورتي وصار الشرر يتطاير من عيني وانطلقت نحوه ومسكته من قميصه من وراء مكتبه وسحبته الى عندي فانكب على مكتبه واردت ضربه الا ان الموظفين الاخرين انطلقوا نحوي ومسكوا يدي ومنعوني من ضربه. لقد كنت كالثور الهائج لاني لم اكن اعرف طريقة تلفٌّظ الكلام البذيء كنت فقط اهدده باني ساذبحه هنا بالملحقية اليوم. بقي يسب ويشتم وانا احلف له بكل ما املك من ايمان باني سانتظره خارج الملحقية اليوم وساقوم بقتله.
ومحاولة من الموظفين لتهدئة الموقف جائت عندي نفس الموظفة البدينة التي كانت في الغرفة المجاورة وصارت تهدئ من روعي وتقول لي تعال عندي اخوية تعال شبيك انت عصبي تعال. انا ساقوم باجراء المعاملة لك. نظرت اليها وصرخت بوجهها وقلت إذا كنت تستطيعين عملها، فلماذا لم تعمليها بالامس او حتى اليوم وقد ضاع مني يومين محاضرات؟
الموظفة : تعال اريد ان اهدئ الامور بينكم، فهذا الرجل بامكانه ان يؤذيك ويؤذي عائلتك بالعراق. فقط تعال وساقوم لك بالواجب. وقفت بداخل مكتبها لمدة لا تتجاوز العشر دقائق وانا لازلت ارتعش من الغضب. وبعد ان انتهت من اعداد الورقة نظرت الي وسلمتني المعاملة وقالت.
الموظفة : خلص اخي بامكانك ارسالها للعراق كي يقوموا بتقديمها لوزارة التعليم العالي، وماكو داعي لكل هالتشنج.
اخذت الورقة منها ووضعتها بجيبي وخرجت وانا لا ازال اشتعل من الغيض. وقفت امام الملحقية لمدة ساعة كاملة انتظر قيس العاني كي يخرج الا ان احد الموظفين في السفارة كانت تربطني به معرفة سطحية (كان مستخدماً محلياً بالسفارة اي انه لم ينصب من بغداد) خرج هذا الموظف وتوجه نحوي.
الموظف : ماذا تعمل هنا يا مجنون؟
-أسمعت بما جرى بيني وبين هذا الحيوان؟
الموظف : اجل سمعت، وهل بقي احد لم يسمع بعملتك الشنيعة! السفارة والملحقية كلها مقلوبة رأس على عقب من جراء تلك المشكلة. ولكن لماذا انت هنا؟
- انتظر قيس العاني كي اعلمه درساً لن ينساه ابداً في حياته.
الموظف : الا تعلم انه مرسل هنا من المخابرات؟ الا تعلم انه يبعث تقارير عن الجميع كل يوم؟ هل انت مجنون؟ اتريد ان تسمع خبر اهلك جميعاً وهم يستمتعون بضيافة المخابرات ؟ بامكانه وبكل سهولة ان يصق اي تهمة في رقبتك فتذهب انت واهلك (سبعة گاصر).
- لكن يا اخي هذا الانسان قام باهانتي واهان عرضي وسب امي واخواتي.
الموظف : فوض امرك الى الله. تحملها واذهب بطريقك والا خسرت كل شيء. لقد حصلت على الاوراق التي جئت من اجلها ولم يبقى شيء سوى ان تدوس على كرامتك قليلاً وتذهب للجامعة.
لم اشأ ان اعقد الموضوع الشائك اكثر مما هو عليه فشكرته وودعته ورجعت الى الجامعة.
هكذا كانوا يعاملونا
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
http://algardenia.com/maqalat/27982-2017-01-17-12-34-48.html
4821 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع