بقلم د. رحيـم الغربـاوي
عالم ألف ليلة وليلة في قصيدة ( وددتكَ سندباداً )
للشاعرة ليلى الماجد من مجموعتها الشعرية ( ترانين من خلف القضبان .
إنَّ الشاعر بوصفه خالقاً " أُعطي له بامتياز خاص أنْ يكتشف منذ اللحظة الأولى أسرار الشعر والجمال كله " (1) ولعل المتلقي ألف الشعر القديم بإنموذجه وثقافته وكأنَّه نور يضيئه ويحييه ؛ لذلك نرى من البداهة " أنَّ الشاعر العربي المعاصر لا يكتب في فراغ , بل يكتب ووراءه الماضي وأمامه المستقبل " (2) ؛ فهو غير منقطع عن حضارة أمَّته , بوصف الحضارة حينما تنبعث من جديد , فلابد أنْ ترتكز على ذات الروح التي كانت عليها الحضارة السابقة التي انبعثت منها لكنها مطلوب منها مواكبة معطيات عصرها و متطلبات ثقافته والأفكار التي تولد من رياض الحضارة الجديدة ومن دون انقطاع عن ماضي تراث أبنائها ,ولابد أن تلامس المظاهر العليا جميع وجوهها التي تمثلها لاسيما الأدب الذي هو الوجه الأنصع للحضارات في أغلب معطياتها ,
وليلى الماجد سيدة اللون الجديد للقصيدة النسوية على الرغم من غضاضة طرفها في مسرح الشعر إلا أننا نجدها تحث الخطا , لمنح القصيدة النسوية طابعاً جديداً يأتلق بنزعة تستلهم التراث فيها بل والرموز التي تحقق مديات من السحر الشعري الذي يمنح النص سرّ تميُّزه , إذ نرى الشاعرة تستعمل الرموز التاريخية والأسطورية الخيالية في نصوصها لما تمتلكة من ثقافة في هذا المضمار ؛ لتمنح الشعر ما يجب عليه من رؤية " وتعتمد الرؤيا الشعرية على مايختزنه وعي الشاعرمن تصورات كبرى وشاملة ومعارف وتجارب شخصية تفضي إلى فهم خاص عن الكيفية التي يُرى بها الشعر " (3) وليس فقط قادرة على محاكاة الماضي لكنها أفادت من رموز الماضي وتوظيفها لخدمة التجربة الشعرية , وهذا ما لمحناه لدى شاعرتنا الجادة , فهي تقول :
ما أنت سوى شوقٍ لاينتهي
فلم نبتديء بطقوس اللقاء بعد
فكيف إذا التقيتُكَ !
أيُّها الغائب عن حاضري
وددتُكَ سندباداً تبحرُ
في أشواقي
آفاقي
وتكتب من رفيف الكلمات .
إذ نجدها تتحدث عن الشوق الذي لاينتهي , فهي تعجب من هذا الشوق على الرغم من أنَّها لم تمارس طقوسه بعد اللقاء بالحبيب الذي سيكون حتماً صعباً احتماله ، وعلى الرغم من ذلك فإنها ترجوه أنْ يكون سندباداً , والسندباد رمز المغامرة في أدب العصر العباسي في قصص ألف ليلة وليلة , فهو رمز المُبحِر القاطع للأزمنة والأمكنة , وهو من يجلب الفرح لأصدقائه ومحبيه كما أنَّ حديثة عن مغامراته يمنح متلقيه المتعة والدهشة والطرافة .فالسندباد حينما يبحر فهو سيبحر في أشواقها يملأها رغبة اللقاء حيث يملي خيالها ذلك ما أكدته لفظة ( آفاقي ) .
ثم تنتقل إلى صورة أخرى من صور ألف ليلة وليلة وهي صورة شهرزاد التي تقص قصصها لشهريار بما فيها قصة السندباد , ولعل تداخل الصور يزيدنا دهشة في تصور هذا المزج الشعوري الذي ألفته الشاعرة بصورة واحدة , نجد ذلك في قولها :
كتبتكَ ألف ليلة
وسعدتُ
مع آخر ألف ليلة وليلة
حين تشمِّرُ شهرزاد أردانها
لتحكي قصصها
حتى الصباح .
فهي التي ترى المنتظر كأنَّه شهريار الملك الذي أقامت له شهرزاد قصصها بألف ليلة وليلة , وحينما عقدت له تلك الليالي أنستْه ممارسته المجنونة في الفتك حتى جعلته وديعاً ساكناً , يمتثل أمرها ويحرص على سماع كلماتها التي كانت تؤنسه بها من دون أنْ يشعر بالزمن القاتل حين يكون الإنسان مهموماً , بينما حينما يأنس المكان لايستشعر الزمن ؛ لذلك تختم شاعرتنا وشهرزاد بولوج الصباح .
ومن ثم تعرِّج لتكمل حكايتها التي بدأتها بالشوق الذي لاينتهي مذكِّرةً بقصص العشاق في أدب أوربا في عصورها الوسطى فهي تقول :
لتكتملْ قصةُ الحبّ التي أسرَجَتها
قصص التوربادو
وهي تحلِّق في دنيا العشَّاق
وسحر الأشواق .
والتوربادو قصص تحكي سِيَر العشاق في أوربا , لكننا نؤكد أنَّ شاعرتنا مازجت أيضاً في موضوعين هي قصتها للمنتَظر , والآخر تريد أن تقول أن قصص التوربادو هي قصص تأثرت في الأدب المشرقي العربي من خلال احتكاك الغرب بحضارة العرب في الأندلس , وهذا ما أكدت عليه معظم مصادر التراث من أن تلك القصص تأثرت بقصص الفرسان العرب , وكذلك قصص العشاق في الف ليلة وليلة, والذي يغري بالقول أنَّ الشاعرة تؤكد معطيات الفنون الأدبية العربية وأصالتها وأثرها على الحضارات الأخرى .
والشاعرة تستطرد في قصيدتها التي منحتها حساً رومانسياً عذباً جادت به , فهي تقرر أنْ لاحبيب غير الموعود :
فلست إلا أنت حبيباً
تصطفيك طقوسي الخضراء
عشقاً أبديَّاً
فكيف إذا ما التقينا
عساها تذوب في تَرفٍ
شفاهُ الكلماتْ ...
فالحبيب الذي تصطفيه طقوسها الخضراء بعشقٍ أبدي ، ولفظة ( الخضراء ) توميء الى الحياة ذات الديمومة الأبدية , ولعل كلكامش عندما بحث عن الخلود وجده في عشبةٍ خضراء , ولعل لقاءها سيذوب في ترف شفاه الكلمات .
ويبدو أنَّ الشاعرة تستعمل الصور المتخيلة الرقيقة في مناجاتها للحبيب فتصيغه بهمسٍ يُستَشعر بالخيال الشفيف مازجة بين الواقع واللاواقع من خلال الرموز المجازية والتاريخية الموشاة باعلجائبية وبروحها الرومانسية التي تكاد تطغى على القصيدة .كما أنها أشاعت النور في أجواء القصيدة من خلال الألوان التي احتوتها ومنه لون البحر ( الأزرق ) و( وجه الصباح ) الأبيض , والطقوس ( الخضراء ) , كما أضفت على الصور حركية عالية باستعمالها الأفعال ( نبتديء , التقيتك , تكتب , كتبتكَ , تشمِّرُ , تحكي , تكتمل , تحلِّق ,تصطفي , تذوب ) , إذ منحت النص تجدُّدَ صورهِ التي تشعُّ بالحركة ؛ مما يمنح القصيدة تصورياً رائقاً يأخذ بالخيال نحو التطلع الى ما تبثه مخيلتها في فضاء القصيدة من دراما منتجة للصور المتداخلة مع بعضها , وحركية الافعال هذه تناغمت مع البوح النفسي للشاعرة ولهفتها للمنتَظر مما ساعد على شيوع الأفعال المضارعة , فمُنِح النص سر جماله ومقصدية كلماته البليغة .
سلمتْ شاعرتنا العذبة ليلى الماجد وإلى مزيد من الإبداع .
زمن الشعر , أدونيس : 37
المصدر نفسه :45
العقل الشعري . خزعل الماجدي :1 / 140
787 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع