مدينة بابل التاريخية مشكلة مستعصية أم حلول غائبة؟

                                                       

                          حامد خيري الحيدر

يعتبر التخريب الذي حصل لمدينة (بابل) التاريخية بداعي أعادة بنائها، أحدى أبشع الجرائم التي ارتكبت بحق الثقافة والتاريخ، طالت واحدة من أبرز رموز ومعالم التراث الانساني العالمي..

ومن وجهة النظر الاثارية  فأن تلك الجريمة كانت بغاية البشاعة، لما سببته من دمار كبير أصاب هذه الحاضرة الخالدة لا تزال نتائجه قائمة حتى يومنا هذا، جعل علماء الآثار في حيرة من أمرهم حول كيفية أزالته أو معالجته أو حتى التعامل معه، بعد أن دفنت آلاف الأطنان من الاسمنت والخرسانة المسلحة آثارها العظيمة الخالدة أمام أنظار وأسماع العالم أجمع، دون أن يتمكنوا من فعل شيء لإنقاذها.. ولسنا هنا في مجال التطرق الى السبب الذي أدى الى هذه الجريمة أو المتسبب فيها، فقدا أصبح ذلك واضحاً ومعروفاً أمام جميع أبناء الشعب العراقي وغدا جزءً من التاريخ.. لكننا سنتطرق الى ما حدث للمدينة كونه واقع حال يتطلب الانقاذ.
ويمكن حصر طبيعة التخريب الذي الحق بالمدينة التاريخية ومدى جسامته، بثلاثة أوجه.. الأول... يتمثل بإزالة مساحات واسعة من المنطقة الأثرية عن طريق تجريفها بواسطة الجرافات المجنزرة والأليات الثقيلة الأخرى، شملت الأرضيات القديمة للمدينة المرصوفة بالطابوق القديم والتلال الأثرية وأجزاء من أسوارها، لغرض بناء منشآت ومباني حديثة محلها..  ومن أهم الأمثلة على ذلك هو ازالة المقبرة الأثرية الشهيرة في المدينة والمعروفة باسم (مقبرة التل الشرقي)، العائدة الى الفترة الفرثية (القرن الثاني ق.م)... والتي تعتبر واحدة من أهم المقابر المكتشفة في وادي الرافدين كونها شيدت بأسلوب فريد من العقود الاجرية والتصميم الهندسي الغريب.. كما يتمثل هذا التخريب أيضاً بتشييد أحد القصور الكبيرة فوق قمة أعلى تل أثري في المدينة، وما جلبه ذلك البناء مع الطريق اللولبي المُعبد المؤدي اليه من خراب ودمار الى هذا التل... أما الوجه الثاني من هذا الدمار، فيتمثل بإعادة بناء المباني الأثرية بشكل حديث، وبأسلوب كيفي غير مدروس، وصبغها بطابع الحداثة، بعد ازالة قسم كبير من طابوقها الأصلي المختوم بأسماء ملوك بابل (نبوخذنصر) و(نبونئيد) من القرنين السابع والسادس ق.م. ليتم التشييد على الأسس القديمة المتهالكة، بعد أن تم تغطيتها بكميات هائلة من الاسمنت والمواد الانشائية الأخرى شديدة الصلابة، مما تسبب في اهتراء ثم دمار تلك الأسس فيما بعد، وهذا ما يلاحظه الجميع في منطقة القصور والأبنية المحيطة بشارع الموكب وبوابة عشتار... كما ويعد الوجه الثالث من ذلك التخريب مكملاً لسابقيه، وهو أجراء صيانة  لبعض أبنية المدينة بأسلوب دعائي ركيك، بعيد كل البعد عن العلمية التي تتطلبها عملية الصيانة الأثرية، مما أزال رونقها التاريخي الذي يعطيها هيبتها ومُحياها القديم، لتبدوا كأنها شيدت بالأمس القريب.. وهذا بالفعل ما حصل للمسرح اليوناني، الأثر والرمز الوحيد المتبقي من فترة حكم (الاسكندر المقدوني) خلال القرن الرابع ق.م ، الذي يمثل بوضوح التمازج والتلاقح الثقافي الذي حصل خلال تلك الفترة بين الحضارة الشرقية واليونانية، والذي سعى اليه (الاسكندر)، لتنتج ما عرف بالحضارة (الهلنستية).. وهناك مثال آخر في هذا الخصوص هو طلاء معبد (نابوشخاري) الذي كان مكرساً لعبادة إله الحكمة والمعرفة (نابو) وزوجته الآلهة (شخاري)،  باللونين الأبيض والأسود مستخدمين الألوان النفطية (البوية)، في سابقة مؤلمة من الصعب تصورها علمياً، أدت بالتالي الى اهتراء وتقشر الطبقة الخارجية من جدران المعبد التي تسمى (طبقة العُتق) الى سمك أكثر من 4سم، متأثرة بذلك الطلاء..... وقد يتبادر للذهن في الوهلة الأولى بعد الذي تم أيجازه أن الدمار والتخريب هو كل ذلك، لكن واقع وحقيقة الأمر أكثر مرارة وأشد. والذي يستوجب توضيحه بهذا الخصوص، هو أن ما يُلاحظ اليوم من بقايا أبنية هذه المدينة هو فقط بقايا الفصول المتأخرة من مسيرة تاريخها الموغل بالقدم، الذي يضم الفترات التاريخية والأدوار الحضارية التي أعقبت القرن السابع ق.م، والمتمثلة بالأدوار التاريخية... (بابلي حديث أو كلدي)... (فارسي أخميني)... (يوناني/فترة حكم الاسكندر المقدوني)... لتفقد المدينة أهميتها بعد أن شيّد (سلوقس) وهو خليفة الاسكندر في حكم بلاد الرافدين مدينته الجديدة (سلوقية) قرب (المدائن)..... لكن الأهمية الأكبر هو ما احتوته المدينة في طبقاتها  السُفلى الغير منقبة حتى الآن، التي يعود تاريخها الى مطلع الألف الثالث ق.م، متزامنة مع نشأة مدن وادي الرافدين وازدهارها.. فبينما كان شعب (سومر) قد جعل من جنوب سهل الرافدين موطناً لسكناه ومنطلقاً لنشر حضارته العظيمة، أتخذ (الساميون/الجزريون) من القسم الأوسط  لذلك السهل مستقراً لهم، لتشييد مدنهم وتشكيل كيانهم السياسي وبنيانهم الاجتماعي الخاص بهم، ومن بين تلك المدن انشأت (بابل)، حيث كانت حينها قرية صغيرة تابعة لمملكة (كيش) الحاضرة الأولى والأكبر للساميين.... وبتتبع التسلسل التاريخي لوادي الرافدين يتبين أنه مرت على المدينة ستة أدوار حضارية سبقت الأدوار الآنفة الذكر.. هي حسب تسلسل القِدم.. (فجر السلالات)... (أكدي)... (سومري حديث)... (بابلي قديم)... (كشي أو بابلي وسيط)... (آشوري حديث)... وأحتوى كل من هذه الأدوار عدد غير محدد أو معروف من الطبقات الأثرية تمثل مراحل السكنى التي تعاقبت على المدينة خلال تلك الفترات. ومع تعدد هذه الأدوار فأن أهميتها برزت بشكل خاص خلال ثلاث فترات منها... هي فترة القرن الرابع والعشرين ق.م الموازية لفترة العصر الأكدى، حيث من الآراء القوية المطروحة، أن في طبقات هذه الفترة من المدينة شيدت مدينة (أكد) عاصمة الأكديين التي أسسها الملك (سرجون) عام 2370ق.م التي لايزال موقعها غير محدد حتى الآن. أما الثانية فهي الفترة البابلية القديمة الممتدة من القرن العشرين و حتى القرن السادس عشر ق.م، خاصة خلال فترة حكم الملك الشهير (حمورابي) 1792_1750ق.م، والأخيرة كانت مع مطلع الألف الأول ق.م أي خلال فترة السيطرة الآشورية حيث أصبحت المدينة عاصمة القسم الجنوبي للأمبراطورية، بعد منحها شيئاً من الاستقلالية الذاتية في الحكم رغم خضوعها لعرش (آشور)، وهذا ما توضحه العديد من النصوص المسمارية التي تؤرخ هذه الفترات من مدن وحواضر أخرى معاصرة لها. لذلك فأن أبعاد هذا الدمار الذي تم أيجازه، تتمثل بشكل أساسي بقطع الطريق لأجراء أية تنقيبات أثرية مستقبلية في تلك الطبقات، وبالتالي عدم معرفة خفايا تلك الأدوار التاريخية وكشف أسرارها.
ومن تتبع بعض المعطيات الغائبة عن غير المختصين في حقل الآثار يتبين أن عملية تدمير مدينة (بابل) قد ابتدأت في مطلع السبعينات من القرن الماضي. وما حدث خلال تلك الفترة أن منظمة (اليونسكو) اقترحت تبني مشروع ثقافي كبير للمدينة التاريخية، باعتبارها من المدن الأبرز التي ضمّتها لائحتها للتراث العالمي. ويشمل أجراء تنقيبات واسعة في طبقاتها الأثرية السفلى، أي من حيث أنتهى المنقبون الالمان في تنقيباتهم مع نشوب الحرب العالمية الأولى، وأيضاً أجراء صيانة علمية لبعض الأبنية المهمة، كالقصور والمعابد المستظهرة خلال تلك التنقيبات، والعائدة الى الأدوار المتأخرة من المدينة، على أن يتم تنفيذ ذلك المشروع بالتعاون مع العديد المؤسسات الاثارية العالمية الراقية، وبتمويل من بعض المؤسسات الاثارية الأمريكية...... كانت العقبة الكبرى في أجراء تلك التنقيبات المقترحة هي نفسها التي جابهت الألمان في مطلع القرن المنصرم، ألا وهي غمر تلك الطبقات (السفلى) من المدينة الأثرية بالمياه الجوفية المتسربة من شط الحلة المحاذي لها، مما جعل من المحال الحفر والتنقيب فيها لعمق أكثر من خمسة أو ستة أمتار، علماً أن عمق الطبقات الأثرية السفلى  المغمورة بالمياه قد قُدّر بأكثر من عشرين أو خمسة وعشرين متراً. لذلك كان التركيز في الدراسات  العلمية الممهدة لتنفيذ المشروع، هو كيفية التغلب على هذه المشكلة التي بدت مستعصية للجميع. على أثر ذلك قدّم فريق من علماء الآثار والري الأمريكان بعد أجراء دراسة مستفيضة لهذه المشكلة مقترحاً، يتكون من مرحلتين.... أولها بناء جدار كونكريتي مع امتداد شط الحلة وبعمقه وموازياً للمدينة الأثرية، الغاية منه أيقاف ومنع تسرب المياه المتدفقة من الشط الى تلك الطبقات المراد الوصول اليها. بعدها يبدأ العمل بالمرحلة الثانية وهي تجفيف المياه المتراكمة في تلك الطبقات، عن طريق حفر عدد من المبازل وقنوات تصريف المياه، أضافة الى استخدام عدد كبير من المضخات المائية... ثم بعد اتمام كل ذلك يصبح الطريق ممهداً للمباشرة بتنفيذ مشروع منظمة (اليونسكو) بالتنسيق مع المؤسسة الاثارية العراقية، بتوجيه الدعوة لكافة المؤسسات الاثارية العالمية، لإقامة مشروع عالمي للتنقيب في المدينة والكشف عن ماضيها المجهول. ومع أن تلك الدراسات لم تؤكد تماماً نجاح المرحلة الأولى، لكن بالمقابل كانت فرص نجاحها أيضاً بمستوى جيد تتجاوز السبعين في المئة. لذلك وبالرغم من هذه النسبة والكلفة المادية الكبيرة التي يستنزفها، بدأ التخطيط فعلياً  لتنفيذ هذا المشروع العملاق.
لكن هذا التحرك الدولي النشيط الذي رافقه عقد العديد من المحاضرات والمؤتمرات المصغرة والندوات التنسيقية مع المؤسسة الاثارية العراقية بخبرائها وعلمائها المتحمسين كثيراً حينها لهذا العمل، اصطدم  للأسف بقصر النظر ومحدودية البصيرة لمن كان يتولى أمر العراق خلال تلك الفترة حيث وقف بالضد تماماً من اتمام هذا المشروع، وبدلاً من أبداء التسهيلات وتقديم المساعدة الممكنة للساعين فيه، تم وضع العراقيل أمامه لوئد فكرته في مهدها، والتي ابتدأت بتشويه صورته اعلامياً، ثم تم توجيه الضغوط الشديدة على العلماء العراقيين الداعمين للمشروع كي ينسحبوا منه، بعدها تم صرف أنظار المؤسسات الاثارية عن مدينة (بابل) بقرارات غير مدروسة، وتوجيه الجُهد الآثاري العراقي والعالمي للعمل في مشروع انقاذ آثار حوض (حمرين) في محافظة ديالى.. ليتم خلال عقد الثمانينات تنفيذ الفكرة العبثية الارتجالية بإعادة بنائها، والتي كان من أهم نتائجها السلبية قيام منظمة (اليونسكو) برفع مدينة (بابل) من لائحة التراث الانساني العالمي.
أن قراءة الواقع المأساوي الذي يعيشه العراق اليوم ومؤسسته الاثارية المُنهكة بما تعانيه من وضع بائس للغاية لا يليق بماضيها العريق للأسف لمحدودية امكانياتها، وقلة كفاءتها وخبراتها العلمية وتخبطها الواضح في وضع سياسة آثارية ناجحة، بسبب أوضاع البلد السياسية والامنية والاقتصادية المضطربة، أعتقد أنه من الهذر أن ننتظر من هذه المؤسسة أن تأخذ على عاتقها بشكل منفرد معالجة مشكلة علمية معقدة كمشكلة مدينة (بابل) وأعادتها الى سابق عهدها... لذلك فان الحل الوحيد لإنقاذ هذه الحاضرة التاريخية العريقة هو أن تتظافر جهود جبارة محلية ودولية للتخطيط الصحيح لمعالجتها.. تبدأ بعقد مؤتمر دولي كبير بأشراف منظمة (اليونسكو) بمشاركة المؤسسات الاثارية العالمية الفاعلة، لوضع الدراسات العلمية الناجعة لكيفية التعامل مع واقع المدينة الأثرية في ظل الخراب الحاصل لها، وايجاد الحلول المناسبة لأزالته. أي أن تكون المعاجلة بشكل حملة انقاذ دولية، تكون متزامنة مع أحياء المشروع القديم الذي سبق ذكره، على أن تتبني جهات بعينها تنفيذ ذلك وتمويله.... وماعدا ذلك تبقى جميع الحلول والمعالجات محدودة الجدوى والتأثير، ولن تتمكن من أجراء انقاذ حقيقي لما تعرضت له المدينة من دمار وخراب.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1018 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع