الدكتور/ محمد عياش الكبيسي
مع حالة الفوضى العامة التي اجتاحت العراق وسوريا وبعض البلاد العربية نتيجة لعوامل خارجية أو داخلية، برزت ظاهرة «الشرعي» واللجان أو الهيئات «الشرعية» التي أسهمت إلى حد كبير في إشاعة الفوضى وتشعبها وإطالة عمرها.
الشرعي هو صاحب القرار الفعلي في أغلب الفصائل المسلحة، ويشكل في الوقت ذاته نوعا من الرقابة الصارمة تلافيا لأي خروج محتمل عن قواعد الشريعة خاصة فيما يتعلق بالعلاقات والتحالفات والمفاوضات وحتى صيغ البيانات والخطابات.
مؤهلات الشرعي في العادة سهلة جدا، فلا توجد شروط وضوابط محددة ومكتوبة، وإنما في الغالب يتم اختيار أفضل الموجود، وهذا الأفضل قد يكون هو الأقرب إلى قلب «الأمير» أو الأقدر على إظهار المهارة الخطابية والوعظية، وفي كثير من الأحيان يكون الأفضل هو الأكثر حماسة وتشددا. وبعض هؤلاء لم يدرس الشريعة أصلا، وبعضهم درس الشريعة بمقرراتها المعروفة في المعاهد الإسلامية وكليات الشريعة التي ربما يتخرج بها الطالب وهو لم يقرأ صفحة واحدة في السياسة أو العلاقات الدولية أو فن التفاوض أو الإدارة العامة، وربما لم يطلع بتاتا على تجربة واحدة من تجارب الثورات المعاصرة. هؤلاء قفزوا على الأحداث مضطرين أو مستغلين حالة الفراغ فوجدوا أنفسهم فجأة في مواقع المسؤولية، مع مشاغلهم الكثيرة ومشاكلهم اليومية التي لا تسمح لهم بتلافي أي شيء مما فاتهم.
في مثل هذه الحال يكون الموجه للشرعي عادة إما مقولات دينية عامة غير مؤصلة ولا مفحوصة، وإما الرغبة بتثبيت موقعه في جماعته من خلال تبني المواقف التعبوية أو الطوباوية الفارغة، إضافة إلى أن السلوك الداخلي لمثل هذه الجماعات يسمح في العادة بالمواقف المتشددة حتى وإن جاءت بالنتائج المعكوسة لأن هذا في عرفهم سيكون «ابتلاء ربانيا»، بخلاف المواقف المرنة التي تقترن عندهم عادة بالتهاون والتنازل عن الثوابت، فإن جاءت بنتائج غير مرغوبة كان ذلك دليلا على «الانتقام الإلهي».
إن هذا السلوك المتلبس بلبوس الدين أشد خطرا من أي خطأ آخر قد ترتكبه جماعات أخرى لا تحمل اسما دينيا، فهناك معايير الصواب والخطأ بالنتائج الملموسة والتي يمكن فهمها والقياس عليها، أما هنا فتدخل معايير أخرى مثل النوايا والاجتهادات الفقهية والمقولات الغيبية والاحتجاج بالأقدار الإلهية، وهذا كله مع حالة الجهل والفوضى يجعل الأمور أشبه بالمتاهة المعقدة، التي لا يعرف فيها الحق من الباطل، ولا المحسن من المسيء، وقد وصل الحال إلى اعتبار تدمير مدينة مثل الفلوجة أو حلب أو كوباني وتشريد عشرات الآلاف من الأهالي شيئا يمكن الخلاف فيه تبعا لاجتهاد الشرعيين ونواياهم، وهناك من ينكر أصل البحث في هذا الذي حصل لأنه أقدار إلهية محضة، وستظهر حكمتها بعد حين «ولكنكم قوم تستعجلون»، وفي النفسية المتدينة قبول عجيب لمثل هذا التفكير حتى لو مرت على التجربة مائة سنة، المهم لا يجوز لك أن تنتقد أو حتى تفكر بانتقاد أحد هؤلاء «المجاهدين» أو»العاملين للإسلام» ولو كنت تراه سببا مباشرا في تدمير بلد بكامله، فيكفيه أنه ابن الميدان، على طريقة أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا.
إن أخطر ما أفرزته هذه الظاهرة هو ما يمكن تعريفه بحرف مسار الثورات الشعبية بوجه الاحتلال أو بوجه الاستبداد، التي كان من الممكن أن تكون مفتاحا لمرحلة جديدة تبشّر بالانعتاق والنهوض وبناء المستقبل الأفضل بعد عقود طويلة ومرهقة من الظلم والتخلف والتيه والشتات.
لا أحد يستطيع أن ينكر أن تلك الثورات كانت ثورات شعبية وعفوية ليس لها أيديولوجيا معينة وهي بالفعل تعبّر عن إرادة شعبية عامّة للانعتاق والتحرر، غير أن دخول الجماعات الدينية مع ما تحمله من تناقضات وأيديولوجيّات مشوّشة وغير منظمة أدخل هذه الثورات في نفق يصعب التكهّن بنهاياته.
في الحالة العراقية كانت ردة الفعل على الغزو الأميركي ذات طبيعة شعبية وعفوية وفورية، وإن كانت مقتصرة على المحافظات السنّية، لكن سرعان ما جنح بها «الشرعيون» إلى عناوين دينية مقفلة، وتحت كل عنوان «منهج» يبحث عن النقاء والصفاء في العقيدة والسلوك، كلّ بحسب مذهبه وثقافته الخاصّة، وقد كان هناك فصيل واحد يحمل في عنوانه اسم «الوطنية» مع «الإسلاميّة» لكن سرعان ما تم حذف الوطنية من قبل «الشرعيين» تحت ضغط المزاج الديني العام للمسلحين والذي كان يبحث عن «وضوح الراية» و «نقاء الصف»، حتى الفصيل المقرّب جدّا من عزة الدوري وقيادة البعث جاء ليحمل اسم طريقة صوفية معروفة ولها حضورها في الوسط الديني العراقي.
في الحالة السورية ربما تكون الصورة متطابقة تماما مع الحالة العراقية، فمع البدايات المبشّرة للثورة والتي انخرط فيها الشعب السوري على اختلاف توجهاته ومشاربه مما شجّع عددا كبيرا من الضباط والمراتب العسكرية للانشقاق والالتحاق بصفوف الثورة، وبرزاسم الجيش الحر كبديل مقبول شعبيا وعربيا وعالميا، لكن سرعان ما ظهرت العناوين الدينية وربما بذات الأسماء التي تشكلت في الحالة العراقية، وظهرت تباعا أيضا الرايات الجديدة والمناهج التي تناسب النخب المتدينة بتوجهاتها ومرجعياتها الخاصّة.
لقد أخذ الجدل حول «المناهج» و»الرايات» مساحة من الاهتمام ربما تفوق مساحة الاهتمام بمقاومة النظام والإجهاز عليه، بعد أن وصلت الثورة إلى مشارف مطار دمشق، وضاق الخناق بالفعل على بشار وحاشيته.
بل راح كل فصيل يرسم ملامح الدولة السورية الجديدة على وفق ما ارتضاه الشرعيون عنده، وهناك منافسات وربما مزايدات لإثبات التمسّك الشديد إلى حد الورع بكل حكم شرعي مع ذكر دليله التفصيلي، وقد ظهر هذا حتى في البيانات، بحيث يجب أن يراعي البيان العمق المنهجي للفصيل بغض النظر عن آثاره في واقع السوريين أنفسهم فضلا عن العلاقات الإقليمية والدولية.
كنت أتابع بشيء من الألم ما قام به أحد الفصائل من نبش القبور داخل أحد المساجد في مدينة حلب، ويصوّر العظام عظما عظما، علما أن هذا الرفات كان لشيخ طريقة صوفية معروفة ولها حضورها خاصة بين طلبة العلم، ومعنى هذا أن هذا الفصيل لا يبالي أن يصنع لنفسه الأعداء ويخسر جزءاً من الحاضنة الشعبية للثورة من أجل تطبيق حكم الله الذي يراه الشرعيون عنده في أية مسألة، وهذا يعني أنه بدأ بالفعل بممارسة دور السلطة القضائية والتنفيذية على كل شبر يقع تحت سيطرته.
إن فكرة «تطبيق الشريعة» بحدّ ذاتها قابلة -مع حالة الجهل العام وضعف الإمكانات وعدم الاستقرار- لأن تكون آلة لتشتيت الثورة وإشاعة التناحر بين فصائلها الإسلامية، فضلا عن غيرها وتسميم الحاضنة الشعبيّة وإصابتها بالدوار نتيجة للخوف من المجهول والشعور بالقلق خاصة بعد التطبيقات السيئة والمشوّهة للشريعة وحالة الاقتتال بين «الشرعي» و «الشرعي» وفق خلافات عقدية وفقهية غير مفهومة لدى عامة الناس.
فإذا أضيف إليها مبدأ «السلطة» و «البيعة» و «السمع والطاعة» فنحن أمام أشكال مختلفة ومشوهة لدول متجاورة ومتناحرة، وبالتالي فالقانون الطبيعي الذي يحكم مثل هذه الحالة هو قانون «البقاء للأقوى»، وحيث إنها طارئة أو وهمية ولا تملك مقوّمات البقاء الذاتي أصلا ولا حظّا من الاعتراف الدولي والذي هو شرط أساس في بقاء أي دولة معاصرة، فإن هذا الصراع سيكون صراعا عبثيا بحتا، ليمهّد الطريق في النهاية للقوى المتمكنة إقليميا وعالميا لرسم مصالحها على هذه الأرض بعد أن تهدأ قعقعة السيوف، وتختفي تلك الرايات، وتنتهي نشوة الجلد والرجم وإقامة الحدود ونبش القبور، والتي لم تكن في الحقيقة سوى مظاهر مستعجلة وموهومة للتعبير عن القوة والسيطرة.
نعم إن الشرعيين ليسوا كلهم سواء، لأن الفصائل التي ينتسبون إليها ليست سواء أيضا، كما أن مؤهلاتهم واستعداداتهم مختلفة ومتباينة بطبيعة الحال، وقد تلمس في بعضهم قدرا لا بأس به من الوعي والواقعية والمرونة السياسية والتفاوضية، لكن أصواتهم تضيع في غمرة الحماس والمزايدات الطوباوية الجوفاء، وربما يشعر كثير من هؤلاء بالحرج لأن أفكارهم لا تعبّر عن المستوى المطلوب للتمسك بثوابت الشريعة التي تدندن حولها خطابات الفصائل الأخرى، كما أنهم سيخسرون القدرة على تجنيد الشباب المندفع نحو الجنّة والحور العين، والذين لا تستهويهم في العادة الخطابات السياسية والدبلوماسية واستيعاب الحاضنة الشعبية والعلاقات الخارجية، ومن ثَمّ فهم يجدون طريقهم الأسهل للجنة عبر الخطابات التعبوية الواضحة، التي لا تتطلب جهدا عقليا ولا اجتهادا دينيا.
لا أدري كيف يقرأ «شباب الحور» هؤلاء ما ورد في نصوص القرآن والسنّة المطهّرة من أفق سياسي عريض لإدارة الواقع وبناء التحالفات والمفاوضات وربما التنازلات بما تقتضيه المصلحة العامة، وفق القراءة الدقيقة لتوازن القوى ومتطلبات المرحلة، فهذا النبيّ الكريم يوسف -عليه السلام- يرضى أن يكون ركنا في حكومة مصر التي تدين بدين مخالف لدينه {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك}، وهذا نبينا الأكرم -عليه الصلاة والسلام- الذي يقيم دولته الأولى بالتحالف الصريح مع القبائل اليهودية، ثم يهمّ بإعطاء ثلث ثمار المدينة للقبائل المشركة التي تحاصره بسيوفها يوم الأحزاب لعلها ترجع عن عدوانها، ثم قبوله للتحالف مع خزاعة المشركة لمواجهة حلف قريش وبكر.
فكيف يفهم هؤلاء الشرعيون «عقيدة الولاء والبراء» و «المحافظة على الثوابت» و «تطبيق الشريعة» أكثر مما فهمها ومارسها رسول الله والأنبياء السابقون -عليهم جميعا الصلاة والسلام-.
إن المشكلة التي يعاني منها هؤلاء والشباب المندفع وراءهم وأمامهم هي القراءة المقطّعة للنصوص الدينية، النصوص المبتورة عن سياقها، وعن غاياتها ومقاصدها، والتي تدفع للمزيد من المغامرات والمجازفات، ثم التشبّث بمعاني الثواب الأخروي والابتلاء القدري بعد كل خراب ودمار.
1065 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع