اليمينية تختطف أوروبا

                                               

                        د. منار الشوربجي

اليمينية تختطف أوروبا

الانتخابات الهولندية التي ستجري، واحدة ضمن سلسلة حلقات سوف تكشف عن الوجهة التي ستتخذها أوروبا في العقود القادمة، فالقارة ستعيش هذا العام مرحلة مخاض، ستحدد، ليس فقط مصير الاتحاد الأوروبي، وإنما ما إذا كانت الديمقراطية ستظل هي أساس الحكم في النظم السياسية الأوروبية.

والأجواء التي تعيشها هولندا اليوم، ظلت تتشكل عبر مرحلة تقترب من العقدين، فعندما برز جيرت ويلدرز «اليميني»، على الساحة السياسية الهولندية لأول مرة في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، كان يُنظر إليه باعتباره يعبر عن تيار «متعصب وهامشي»، ليس له تأثير يذكر في العملية السياسية في بلاده، لكن مع الوقت، صارت الدوائر السياسية في هولندا تدرك مغزى الصعود المتنامي لخيرت ويلدرز، الذي تواصل حتى حصل حزبه، حزب الحرية، لأول مرة على مقاعد في البرلمان عام 2006.

ومنذ ذلك الوقت، شكل خطاب ويلدرز الشعبوي، قيداً على باقي أحزاب اليمين واليسار في بلاده. ففضلاً عن مواقف ويلدرز المعروفة بخصوص عدائه للمهاجرين المسلمين، بل وللإسلام نفسه، فإن ويلدرز يعادي الاتحاد الأوروبي، وقد كان ذلك القيد بالغ الوضوح في الحملة الانتخابية الراهنة، والتي كان الأكثر تأثراً فيها بخطاب ويلدرز، خصوصاً في ما يتعلق بالمهاجرين، هو حزب الشعب، وهو الحزب الأهم من بين أحزاب اليمين، وفى الوقت ذاته حزب رئيس الوزراء الحالي، مارك روت.

ومن هنا، ستقدم الانتخابات الهولندية بعضاً من مؤشرات الإجابة عن السؤال المهم المتعلق بمستقبل الاتحاد الأوروبي.

وهو السؤال الذي ظل يتردد منذ إعلان نتائج الاستفتاء الذي قضى بخروج المملكة المتحدة من الاتحاد، ورغم الهامش الضئيل في استطلاعات الرأي بين حزب رئيس الوزراء وحزب ويلدرز، إلا أن المراقبين يجمعون على استحالة قيام الأخير بتشكيل الحكومة الجديدة، حتى في حال تفوقه، نظراً لإعلان رئيس الوزراء الحالي عن أن حزبه لن يدخل في ائتلاف حكومي مع حزب ويلدرز، ومع ذلك، ستظل النسبة التي سيحصل عليها حزب الحرية من مقاعد في البرلمان، سوف تحدد ما إذا كان الاتحاد الأوروبي يواجه عقبة ثانية في هولندا بعد المملكة المتحدة.

 

والمسألة لا تقتصر على هولندا. إذ سرعان ما ستتجه أنظار العالم في أبريل القادم نحو فرنسا، التي يوجد بها هي الأخرى تيار يميني معتبر، يعادي الاتحاد الأوروبي، والحقيقة أن الحلقة الفرنسية هي أخطر الحلقات الحالية، لأن فرنسا تظل القوة الثانية، بالإضافة لألمانيا، التي تحفظ للاتحاد تماسكه.

ومن فرنسا إلى ألمانيا ذاتها في سبتمبر القادم، حين ستجرى الانتخابات النيابية هناك، ورغم أن استطلاعات الرأي لا تزال تؤكد على شعبية رئيسة الوزراء الألمانية أنجيلا ميركيل، إلا أن الشهور القادمة لا تزال طويلة، ومن شأنها أن تكشف عن قدرات منافسها الرئيس، مارتن شولتز، في تشكيل تحدٍ حقيقي لها.

لكن الفترة ما بين إعلان نتائج الانتخابات الهولندية هذه الأيام، وبدء الانتخابات الألمانية في سبتمبر، تتخللها أحداث عدة، من شأنها التأثير بالضرورة في مستقبل أوروبا، فرئيسة الوزراء البريطانية، بصدد تفعيل خطتها لبدء المفاوضات البريطانية الأوروبية المتعلقة خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وهى العملية التي تمثل الامتحان الحقيقي الذي يواجهه الاتحاد، والموقف في إيطاليا بعد الاستفتاء الشعبي في ديسمبر الماضي، وتشكيل حكومة انتقالية، يفتح هو الآخر الباب أمام انتخابات جديدة، ليس معلوماً توقيتها، بينما يتنامى فيها أيضاً بشكل ملحوظ تيار شعبوي معتبر.

ولا يجوز أيضاً تجاهل تأثير المتغير الأميركي في تحديد مستقبل الاتحاد الأوروبي، فالشعبوية اليمينية التي يمثلها دونالد ترامب، أعطت دفعة قوية للتيار نفسه في أوروبا عموماً، من هولندا لفرنسا، وترامب لم يخف أبداً عداءه للاتحاد الأوروبي، الذي وصفه ذات مرة بالسيرك، وهو في زيارة تريزا ماي لواشنطن، أثنى على المملكة المتحدة، لأنها اختارت الخروج من الاتحاد، فضلاً عن أن ممثله لدى الاتحاد الأوروبي، يدعو اليونان علناً، هي الأخرى، للخروج منه.

لكن أوجه التشابه بين ترامب ورموز الشعبوية الأوروبية لا تتوقف عند حد الموقف من الاتحاد الأوروبي والهجرة، فهناك سمات لا تخطئها العين لدى ذلك التيار، على ضفتي الأطلنطي، تناهض الطابع الديمقراطي للحكم أصلاً، وهناك قلق حقيقي في الولايات المتحدة من تأثير عداء ترامب لدور المؤسسات السياسية المنوط بها الرقابة على المؤسسة التنفيذية، بما في ذلك دور الإعلام.

في أوروبا، توجد مثل تلك السمات نفسها لدى الشعبوية الأوروبية، ولا يحتاج المرء للذهاب لما هو أبعد من هولندا التي تجرى انتخاباتها اليوم، فكل التقارير تشير إلى الطبيعة السلطوية لخيرت ويلدرز، بل ولغرابة هيكل حزبه.

الحزب عبارة عن خيرت ويلدرز وحده، إذ لا يعدو أعضاء الحزب كونهم «مؤيدين» للرجل، ولا دور لهم في اتخاذ القرارات المهمة.

من هنا، يظل السؤال الأهم على الإطلاق، يتعلق بما إذا كان العالم مقدم على مرحلة جديدة، تعود فيها أوروبا لصراعات قرن مضى أو أكثر، حيث التفتت، والانكفاء القومي على الذات، وصعود النظم الفاشية والسلطوية، فتتغير أوروبا، ويتغير معها مسار التاريخ العالمي.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

949 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع