الدكتور/ محمد عياش الكبيسي
وقفات مع الإستفزازات الأوربية لتركيا!!
تصاعدت في الآونة الأخيرة الاستفزازات الأوروبية لتركيا بشكل غير معهود ولا مألوف، حتى وصل الأمر إلى منع الوزير التركي من الهبوط في هولندا، مما شكّل صدمة للقيادة التركية وحالة من الغضب الرسمي والشعبي.
في منحى آخر وأكثر خطورة، جاء من يصبّ الزيت على النار، حيث أصدرت محكمة العدل الأوروبية قرارا تسمح بموجبه للمؤسسات والشركات التي تتعامل مع الجمهور بمنع الحجاب! وقد جاء هذا القرار على أثر تظلّم قدّمته امرأة مسلمة في بلجيكا تم طردها من عملها بسبب حجابها
هذا المنحى الخطير أعطى للأزمة بُعدا آخر ذا طبيعة دينيّة ثقافية، مما ينذر بتفجير صراع حضارات أو ديانات، خاصّة بعد صعود التيارات الشعبوية في الغرب المتزامنة مع مجيء الرئيس ترمب.
تركيا من طرفها ترى أن كلّ هذا موجّه لها، وأن أوروبا تعيش حالة من عدم الاتزان بسبب الحالة التنموية الكبيرة التي تشهدها تركيا مقارنة بحالة من الشيخوخة والركود ومؤشّرات التفكك التي تعاني منها أوروبا، إضافة إلى أن الصعود التركي جاء تحت لافتة إسلامية مما يشكّل قلقا مضاعفا لأوروبا. إننا إذاً أمام أزمة معقّدة ومتشعبة، وقد تنذر بحرب باردة طويلة الأمد بين الطرفين، مما ستكون له انعكاسات خطيرة على مختلف المستويات، خاصة أن هناك جمرا تحت الرماد مخزونا في ذاكرة بعض الأوروبيين من أيام الحروب الصليبية والفتوحات العثمانية وما قبلها وما بعدها.
بعض التصريحات التي صدرت عن جهات دينية وشعبية في عالمنا العربي والإسلامي لم تكن بمستوى الوعي المطلوب في التعامل مع هذه الأزمة، حيث جنحت إلى إضفاء الصبغة الدينية بل وتقديم أردوغان وكأنه (أمير المؤمنين)! وكأنها تستعجل في حفر الخنادق ورفع الرايات ودقّ طبول الحرب.
في الطرف الأوروبي هناك من يفعل الفعل نفسه وزيادة، ويدفع باتجاه المواجهة، وقد استمعت لبعض القنوات الأوروبية وهي تلتقط بعض تصريحاتنا (الإسلاميّة) وفتاوانا (السياسيّة) لتبني عليها أوهاما بعيدة كل البعد عن حقيقة المشروع التركي، وعن القيم السياسية التي قام عليها حزب العدالة والتنمية*.
إن بعض القيادات الأوروبية متخوفة بلا شك من التحوّل المحتمل في تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، حيث سيعطي هذا التحول لرجل تركيا القوي والطموح «رجب طيب أردوغان» مزيدا من الاستقرار والنفوذ، مما قد يمهّد - من وجهة نظرهم - إلى ظهور «سلطان عثماني جديد» إن هذه المخاوف مع ما يعززها - مع الأسف - في الخطاب العربي الإسلامي تشكل رافعة قويّة للتيارات الشعبوية والعنصرية المتطرفة في أوروبا، والغرب عموما. إن الغرب ليس حالة واحدة، بل إن الثقافة السائدة هناك هي بخلاف ذلك، وإنك لتجد بسهولة بعض الشعوب الأوروبية أقرب إلى الإلحاد أو اللادين، ولم يعد ذلك التاريخ لدى كثير منهم شأنا ذا قيمة، بل هناك بعض الكنائس بيعت للمسلمين ليحولوها إلى مساجد - مع تحفّظي الشديد على هذه الظاهرة لما لها من آثار سلبية قد لا تكون ظاهرة في الوقت الحاضر-، ولكن هناك الأحزاب القومية المتطرفة التي تتغذّى وتتقوّى بخطاباتنا «الإسلامية» التعبوية، وهي تستخدمه بالفعل لاستقطاب الجمهور من خلال إثارة مخاوفه ثم دفعه للاحتماء بهذه الأحزاب.
إن الحالة التركية الأوربيّة إحدى أهم المؤشّرات لصورة العلاقة المستقبلية بين العالم الإسلامي والغرب، وفي الجانبين من يمكن أن يساعد في حل الأزمة الراهنة، وفيهما أيضا من يمكن أن يسارع للانزلاق في حرب دينية أو حضارية مفتوحة.
إن الشعوب الأوربيّة -في تقديري- وحتى الشعب الأميركي لازالت بعيدة إلى حد كبير عن أجواء الصراع هذه، وهي غير متحمّسة ولا راغبة في استذكار التاريخ ولا العودة إلى الماضي الذي كانت تحكمه الكنيسة والشعارات الدينية، لأنه يمثّل لهم مرحلة مظلمة وبائسة، وقد بذلوا الكثير الكثير على طريق التحرر والانعتاق حتى وصلوا إلى «أستاذية العالم» في صناعة الدولة الحديثة بقيمها الجديدة وما تبع هذا من طفرات هائلة في مجال العلم والصناعة والتنمية الشاملة.*
*نعم هناك دوائر ولوبيات قد تستفيد من استعادة التاريخ وإذكاء روح «الحروب الصليبيّة» لكنّها بكل تأكيد لا تمثّل تلك الشعوب، ولا الثقافة السائدة هناك، وقد رأينا بشكل واضح كيف تعاطفت مجموعات وشرائح واسعة من الأميركيين مع المسلمين بعد تصريحات ترامب، حيث نظروا إليها على أنها انقلاب على القيم الأميركية نفسها أكثر من كونها عدوانا على المسلمين. إنه من المؤسف حقا أن لا نجد من دولنا العربية والإسلامية وحتى من تركيا اهتماما جادّا بهذا الملف، على خلاف اللوبيات الصهيونية ثم الإيرانية التي تنشط بشكل استثنائي للتأثير على الرأي العام بل والضغط على مركز القرار نفسه.
إن عدد الأقليات والجاليات العربية والإسلامية في الغرب أكثر بكثير من اليهود والإيرانيين، لكنها مجتمعات ضائعة وغير موجّهة، وكنت قد كتبت في هذا الموضوع على صحيفة العرب القطريّة (المسلمون في الغرب حضور في الشارع وغياب في المشروع) بعد جولة ليست بالقصيرة في بعض الدول الأوربيّة.
إننا حينما ننجح في مخاطبة الشعوب الأوربية وصناعة الرأي العام فيها فإننا نسهم بالنتيجة في تشكيل الإطار السياسي الحاكم، لأننا نخاطب شعوبا حرّة ولها القدرة على المشاركة الفاعلة في القرار بل وفي صاحب القرار، وإن أخطر ما يمكن أن نقع فيه في هذا المجال هو أن نستفز هذه الشعوب بخطاب يؤكّد لهم مخاوفهم منّا نحن المسلمين، خاصة إذا اقترن هذا الخطاب ببعض العمليّات الإرهابيّة العبثيّة والتي تتبناها بعض المجموعات المنحرفة المنتسبة إلى الإسلام، كما حصل هذا الأسبوع في وسط مدينة لندن.
إن تركيا بحاجة أن تُطمئن الشعوب الأوربية بحقيقة مشروعها، وأن نهوضها يشكل رافدا كبيرا لأوربا ولاقتصادها ولا يمكن أن يكون مصدر قلق لها، وعليه فإن الرد الصحيح على الإساءات التي توجهها بعض الحكومات الأوربية إنما يكون بإحراج هذه الحكومات أمام شعوبها، وليس بالخطاب الذي يعزز من شعبية هذه الحكومات.
إن تركيا أيضا بحاجة إلى تمتين صلتها بالعالم العربي والإسلامي خاصّة السعوديّة ودول الخليج ليس للاستقواء بهم على أوروبا، بل لإقناع الأوربيين بأن هناك مصالح مشتركة كبيرة يمكن تحقيقها بدلا من الصراعات الدينية أو القومية، كما أن تصوير أردوغان (سلطانا) أو (أميرا للمؤمنين) كما يحلو لبعض الإسلاميين عندنا يسيء لعلاقة تركيا مع الدول العربية والإسلامية ويخدم اللوبيات التي تعمل ضدّه في الغرب
895 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع