قاسم محمد
مشاهير ماتوا على أرض الرافدين
جيرترود بل
من نافذة حجرة في الطابق الثاني لقصر الأمير محمد الطلال الرشيد امير حائل في شمال وسط جزيرة العرب كانت ابنة السادسة والأربعين البريطانية الشقراء جيرترود ماركريت لوثيان بل تنظر بما يشبه الخشوع الى الصحراء الممتدة الواسعة لقد اسرتها رحابتها ورمالها الناعمة الذهبية وكثبانها التي تبدو كرداء مهد حريري ذهبي ،سحر هذا الامتداد يعني لها الحرية المطلقة رغم انها محتجزة هنا في قصر هذا الأمير الذي يقاتل من اجل بقاء امارته التي يبدو انها زائلة . لاشيء هنا يشبه مكان مولدها في (مقاطعة دورهام في إنكلترا )14 تموز 1868م .دونت في مذكرتها (في بعض الأيام كنت أذهب للنوم بهموم ثقيلة بحيث كنت اعتقد انني لا استطيع الاستمرار ليوم آخر ،ولكن عندما كنت أشاهد انبزاغ الفجر بأشعته الهادئة الممتدة على السهول والهضاب يأسر قلبي ذلك المشهد بسحره)
اتمت دراسة التاريخ في جامعة أكسفورد،كانت في عشرينياتها تقضي وقتها في الحفلات وممارسة الهوايات غير المألوفة للفتيات في زمانها ،كتسلق الجبال ،حتى ان هناك قمة جبلية في مقاطعة (بيرن)بسويسرا تحمل اسمها الى اليوم.ادارت بيل ظهرها للعالم الارستقراطي الذي ترعرت فيه في إنكلترا لتجوب العالم وصحاريه مستكشفة وباحثة في الآثار ومستشرقة ،اتجهت الى بلاد فارس في رحلة مع عمتها ماري التي كان زوجها سفيرا هناك .كانت طهران بوابة بيل للمشرق ، تعلمت اللغة العربية والفارسية والتركية واتقنتها مما أدى بها لسبر اغوار الحضارة العربية والعادات والثقافة والتغلغل في المجتمع الشرقي وجمع المعلومات حوله .
في ذلك التوقيت كانت بريطانيا تخوض حربها الشاملة ضد الدولة العثمانية المتحالفة مع المانيا قبل ان يمنى تشرشل بشر هزائمه في معركة (غالبولي )عام 1915م تلك المعركة التي اضطرته الى تغير تفكيره والاتجاه لمحاربة الدولة العثمانية في المنطقة العربية .
برز العرب حينها كورقة رابحة لبريطانيا اذا ما تم تحريكهم للثورة ضد الاتراك ،وهنا ظهرت الحاجة للاستعانة بالباحثين في الشأن العربي وكانت بيل ممن رشحوا للعمل تحت امرة جنرال يدعى (كلايتون) في هذا المجال لخبرتها في شؤون المنطقة وعشائرها وتجربتها السابقة في الشرق .
وفي الوقت الذي مثلت فيه غالبولي خسارة كبرى لبريطانيا كانت الخسارة الاكبرفي حياة غرترود بيل وربما نهاية حياتها كفتاة طبيعية اذ قتل خلالها العقيد (تشارلز دوتي ويلز)عشيقها الذي كان ضابطاً له سجل حافل بالشجاعة ويمتلك صفات نجوم السينما لكنه كان متزوجاً وكثير الانشغال بالحرب وعمله العسكري .اعتبرت بيل هذه الحرب حربها الخاصة وكأنها تريد الثأر لمن احبته بجنون وكتبت له في احدى رسائلها تقول(وانا بعيدة عن أحضانك لا أشعر بالراحة .الحياة بدونك مثل النار ، وانا أحترق ...)
في كانون الأول عام 1913م وصلت بيل دمشق للمرة الأولى قبيل الحرب العالمية الأولى ،من دمشق تنطلق برحلتها الطويلة الى مدينة حائل بوصفها باحثة آثار.في طريق قافلتها الى هناك تم اعتراض القافلة وانتهى بها الامر تحت الإقامة الجبرية من قبل آل الرشيد وامير حائل لمدة وصلت الى 11يوم .أطلقت العائلة سراحها وانطلقت الى بغداد ثم الى دمشق لتعود الى لندن من جديد .وهناك منحتها الجمعية الجغرافية الملكية وساماً ذهبياً تقديراً لرحلتها الصحراوية .
عادت بيل الى الشرق مرة أخرى ولكن ليس الى الصحراء انما الى قلب المشرق القاهرة وعملت على تجميع وترتيب المعلومات عن عشائر شمال جزيرة العرب لغرض مساعدة بريطانيا على إقامة علاقات معهم بعد ان عهدت هذه المهمة الى مكتب القاهرة الاستخباراتي .طلب منها ايضاً السفر الى الهند مطلع عام 1916م للمشاركة في وضع معجم للبلدان العربية بأشراف حكومة الهند البريطانية .
عادت بيل من الهند مباشرة الى البصرة وكانت البصرة قد وقعت للتو تحت سيطرة طلائع القوات البريطانية الزاحفة نحو بغداد ،وهنا كانت مهمة بيل تحديث معلومات الهيئة الاستطلاعية المتقدمة حول العشائر العربية، تطورت المهمة لترتبط بيل الى هيئة الاستخبارات العسكرية ثم كضابط مساعد في سكرتارية الحاكم السياسي للعراق السير (بيرسي كوكس ).
مع سقوط بغداد في يد البريطانيين في (آذار 1917)انتقلت بيل اليها بصحبة الحاكم البريطاني الذي كانت مهمته التعامل مع شيوخ ووجهاء العراق وهو ما برعت مس بيل فيه تماماً بحكم خبرتها ودقة معلوماتها .
فشل المقترح مقترح ضم العراق الى الهند تحت الحكم البريطاني وصار الامر الى تقسيم المنطقه بين الفرنسيين والبريطانيين وفرضت بريطانيا حمايتها العسكرية على العراق كانت بيل من الداعين الى اشراك العراقيين في الحكم وبعد قيام ما يعرف باسم (ثورة العشرين) تخلت بريطانيا عن الحكم المباشر والتوجه نحو تطبيق سياسة الانتداب .
في شباط 1921م ترك تشرشل وزارة الحرب وتولى وزارة المستعمرات ودعا الى مؤتمر لاعادة النظر في سياسة بريطانيا في المنطقة والاتفاق على الشكل الجديد للدولة العراقية ،وكانت قوانين الانتخاب قد اقرت وتم تعيين رئيس الوزراء .
المرأه الوحيدة المشاركة في المؤتمر كانت جيرترود بل ،في هذا المؤتمر برزت فكرة تعيين فيصل بن الحسين الهاشمي كملك للعراق .
الكثير من المؤرخين ينسبون فكرة تعيين نجل شريف مكة الى بيل نظراً للعلاقة الوثيقة التي نشأت بينهما فيما بعد . أشرفت بيل على استفتاء فاز فيه فيصل .اما على الجانب البريطاني فقد كلفت بيل بأعداد تقارير دورية حول الاحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتوجهات الرأي العام في العراق وهي التقارير المحفوظة الى الان في مركز الوثائق بلندن .
بالإضافة إلى عملها كمسؤولة عن شؤون الاستعمار، كانت أيضًا تقوم بإنابة الملك في بعض الأمور؛ حيث كانت تستقبل شيوخ العشائر والمسؤولين العرب وحتى المواطنين العاديين الذين لديهم شكاوى. كانت تدير شؤون الملك وكانت ترتدي زيًّا لونه أبيض مشابهًا لما كانت ترتديه الأميرات في مكة.
في عام 1923م تبنت مس بيل مشروع تأسيس متحف وطني عراقي بعد ان كانت المجموعات الاثرية تتراكم عام بعد عام في قاعات السراي القديمة وانشأت بناية خاصة له فتحت أبوابها للزوار في حزيران 1926.
في رسالة لوالدها كتبت عن حياتها اليومية تقول (“أستيقظُ الساعة الخامسة والنصف وأمارس الرياضة حتى الساعة الخامسة وخمس وأربعين دقيقة، ثم أمشي في الحديقة حتى السادسة وأقوم بتشذيب الورد ومن ضمنه ورود الياسمين التي أملأ مزهرية منها كل يوم، كذلك بعض زهور الأقحوان. بعد ذلك أتناول الإفطار الساعة السادسة وأربعين دقيقة؛ حيث يتكوّن من البيض وبعض الفواكهة وبعدها أغادر للمكتب بالسيارة الساعة السادسة وخمس وخمسين دقيقة وأصل هناك الساعة السابعة”)وفي رسالة أخرى في عام 1923 كتبت
(“لدي إيمان تامّ أننا نحن الأشخاص الذين يعملون في الحروب لا يمكننا العودة إلى حالة عقلية سليمة. الصدمة كانت عظيمة. نحن غير متوازنين. أعلم أنني فقدت السيطرة على مشاعري ولست كما كنتُ في السابق”.)
واخيراً ..في مساء الحادي عشر من تموز عام 1926م طلبت جيرترود بيل من الخادمة ان توقظها عند السادسة صباح اليوم التالي ،ذهبت بيل للفراش ولم تستيقظ ابداً،على المنضدة الصغيرة بجانب سريرها كانت هناك زجاجة حبوب منوم ،لقد تناولت منه جرعة كبيرة ،غفت جيرترود بيل قبل عيد ميلادها 58 والى الابد .احبت ارض العراق ودفنت في المقبرة المجاورة لكنيسة الأرمن في الباب الشرقي ببغداد.
854 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع