للكاتب - أدريس الجرماطي*
سفر في جريدة
اقتنص النظرة من داخل القطار المتوقف في المحطة الأولى، رأى ابتسامة تعلو وجها يصوبها في وجهه وجه طفل جميل، نظرات كأنها رصاصة تسطو على فراغات أرنبة كانت تغازل وريدات الغابة، عينان ترسمان قطارا آخر من الأحلام، ظل الجالس في مقعده حبيس أنفاس، الجريدة تحكي ألم المدينة القادمة في يده، صعد الجسد الصغير نفس القطار، انتظار مؤقت يصنع أمواجا باطنية في أعماق "ريكامو" الذي يحاول أن يحتفظ على ملامح تلك الابتسامة المرسومة لديه في الأعماق، فتى يخالف الركاب، يحمل منديلا على عنقه، مدلى على صدره وحيدا كأنه يتيم أبعده وضعه النفسي عن الإحساس باليتم، ربما لم يكن يتيما، يبدو كمن يخوض غمار أول تجربة رجولية عله ينجو من بطش مدينة تبدو أكبر من توقع كل عابر سبيل، أو صاحب مصلحة خاطفة في المدينة وعليه العودة إلى بلدته، إن كان بد في البقاء، فعليه أن يكتري شقة أو فندقا، وفي أشد الأوضاع أن يتصل بأسرة تربطه بها علاقة قرابة، رغم أن سكان المدن لهم من الإشغالات ما يكفي لنسيان الأهل والأحباب، تشبعا بأفكار البحث عن المال بأي طريقة...
الفتى يخترق العربات بحثا عن مكان آمن، كلما واصل الصراع بحثا، تباغته الغرف بالامتلاء كأن المدينة مسافرة مهاجرة، تاركة العديد من الأعمدة الاسمنتية ترسم ظلالها الأبدية تنتظر السقوط يوما ما، صنعوها لتكسر الظلام، لكنها أتت على مسح الضوء...
في غرفة "ريكامو" مقعد فارغ، يتوقع لقاءه بنفس النظرات وهي تزرع فيه حسا غريبا، لم يشعر من خلاله من قبل بمثله، لكن الفتى مزال يخطو بسرواله القصير ونظارته على رأسه، تكاد تسقط منه، ومن شدة الازدحام، عقارب الساعة تشير إلى وصول محطة أخرى، عينا الفتى تلمح من بعيد كرسيا فارغا، جسده منهك، قواه قد خرت من كثرة الانتظار، أسرع كي يتخذ مكانا مناسبا، في المقطورة سيدة عجوز، وطفل رضيع في حضن أمه المنهكة التي تبدو أنها بدوية تنوي دفع شكواها ضد زوجها في وجه عدالة تعج بالمخالب عنوة لكي تصطاد الأبرياء، في الركن "ريكامو" يقرأ جريدته تصنعا لآلام الأحداث التي تعصف بالبلدان وهي تحارب بعضها البعض، ويموت الإنسان بلا ترتيبات ولا عدل في بشرية تخطط للدمار، ينظر المركون المتصنع بحافة عينه اليمنى صوب الفتى التائه، يراه مازال يتملى المكان، صمت يعلو المكان، "ريكامو" يصنع خشخشة أوراقه، الفتى يتخاطف نظرة صوب الصوت الخفيف، في الحين أزال نظارته على رأسه لكي لا يحجب أفكاره القديمة على نفسه القريبة، على التو قام من مكانه بخطى متثاقلة، يرسم في وجه صديقه المفترض خارج القطار ابتسامة بعثرت غيوم الرجل، وكأنها عاصفة ثلجية تترامى على الارض منتصف شهر أغسطس، الجو حار جدا، وموجة برد قاسية تستولي على جسد "ريكامو"، حائر من أجل موقف يدعو إلى الارتباك، الفتى ينظر إلى الوجه الذي يعني الكثير من البصمات...
لم يكن الفتى يتيما، لم يكن أيضا هاربا من القرية بحثا عن جنان المدينة، الأسرة الوحيدة التي تحضن طفولته يعرف مكانها، لا يريد أن يعرف عنه أهل مدينته القديمة شيئا، الطفل يبحث عن الحقيقة الوحيدة، حقيقة ضائعة يبحث عنها الجميع في احتشام، تلك الكينونة التي تظل ترسم فينا عقدا نفسية، نؤول فيها أبعادنا الإنسانية، وبعيدا عن القيود المفروضة، نرسم الوردة في وجه المحتاجين للكلمة الجميلة...
الطفل مزال ينظر إلى الرجل، هذا الذي ارتدى عدة عقد تجاه العالم، سطور الجريدة انغرزت كالإبر السامة المنومة المميتة لمخيلته، وجدها على كرسيه جريدة لم تنس حديثها عن طفل يطوف بالمدينة، يبحث عن حقيقة كنه الإنسان، السيدة المرضعة توقظ الرجل بعد وصول القطار محطته الأخيرة، "ريكامو" ينظر إلى النافذة يرى أطفالا يمزقون أوراق بالية قديمة، فكر بأن يترك الجريدة في مكانها القديم..
*إدريس الجرماطي، عضو اتحاد كتاب المغرب
نشر العديد من المقالات بالجرائد الورقية الوطنية والعربية
نشر العديد من المقالات في الجرائد الالكترونية العربية والوطنية
تمت الاستضافة في قناة النيل الثقافية برامج مباشرة
تمت الاستضافة في برامج تلفزية عربية وبرامجاداعية عربيا
وتمت الاستضافة بقناة الرابعة و 2m المغربية
ضمت الرواية "عيون الفجر الزرقاء ضمن فعاليات الرواية العربية بجمهورية مصر
ونال شرف تمثيل المغرب بالمعرض الولي بالقاهرة
تم تكريمه من طرف العديد من الملتقيات العربية والوطنية
الاصدارات:
رواية رحلة في السراب سنة 2008
رواية عيون الفجر الزرقاء 2009
المجموعة القصصية رقصة الجنازة 2011
لحظات في محراب الصمت كتابات سردية 2015
قيد الطبع رواية صبي الطين
قيد الطبع سيمفونية الاحتراق مجموعة قصصية
1146 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع