د. ضرغام الدباغ
الدروس السياسية لمعركة الأمم وعبرها
قراءة معاصرة
مقدمة
عندما درسنا في جامعة لايبزغ، وهي إحدى الجامعات الأكثر عراقة في ألمانيا يبلغ عمرها اليوم أكثر من 800 عاماً، كان هناك وما يزال شارع مهم بالنسبة للطلبة هو شارع 18 / أكتوبر وهو يشير على الأرجح إلى تاريخ معركة الأمم وبالألمانية (Schlacht der Nationen) وكنا قد درسنا في إطار دراسة التاريخ الحديث في مناهج الدراسة الثانوية العراقية في الستينات، وفي هذا الشارع الطويل الجميل تقع بنايات أنيقة ذات طوابق ربما بالعشرين طابقاً، هي الأقسام الداخلية للطلبة.
وأمام هذه البنايات مباشرة (وعبر الشارع فحسب) هناك حدائق رائعة، وغابات طبيعية مهندمة، ثم يطل من بينها نصب هائل عملاق من الصخور الكبيرة وهذا النصب هو ربما من أضخم النصب التذكارية في العالم وأفتتحه الامبراطور الألماني فيلهام الثاني أكتوبر عام 1913بمناسبة مرور 100 عام على معركة الأمم. ومن هنا بدأ أهتمامنا يتجدد بمعركة الأمم، ثم أننا بعد إنهاء دراستنا في الجامعة، صرت أهتم شخصياً (علمياً) بالمقدمات والنتائج السياسية لهذه المعركة الكبيرة .
ثم سنحت لي زيارة أخيرة قبل شهور لهذا النصب صرت أكثر تأملاً ليس بالأثر والنصب كعمل فني، فهذا مؤكد بالطبع، ولكني زرت أيضاً المكان الذي كان يقف فيه قادة الحلفاء وهو مكان مرتفع نسبياً، يضم نصباً بسيطاً، ويراقبون منه سير المعارك ويقع على بعد ربما كيلومتر واحد أو أثنين. وصرت أتأمل المكان وأعيش أحداثه، أصيخ السمع فأكاد أسمع هدير المدفعية وصخب الأوامر والإيعازات وتعليقات القادة، وأكاد أحس بهواجسهم.
والحرب، هو تعبير عن احتقان سياسي بلغ ذروته القصوى، وهو تعبير عن تصادم مصالح وإرادات، أطراف تفاوضت وتحالفت في مرحلة ما بحثاً عن نقاط مشتركة، ثم أختلفت وتهادنت تجنباً للأصطدام، وتنازلت تجنباً للصدام المسلح، ثم بلغ التنازل لدي أحد الأطراف أو ربما عدة أطراف حده الأقصى، كما بلغ ألتهام مصالح الآخرين أيضاً حده الأقصى، وهكذا شارفت اللعبة الدبلوماسية على نهايتها، وأضحى الحرب، الوسيلة الوحيدة لقمع إرادة التوسع ووضع حد للشراهة، وأوصل التجبر والطغيان بلا حدود أطرافاً عديدة على التصميم ولمواجهة وقبول المجازفة بالحرب لأنه بات الخيار الأوحد رغم أنه ليس الخيار المحبب. فالحرب إما ستعدل من خارطة توزيع القوى بشكل جذري، أو نسبي، بحيث يعيد إلى صورة الموقف تعادلاً أو شبه تعادل يعيد للعمل الدبلوماسي جدواه.
نحاول في هذا البحث أن نقدم رؤية وقراءة عصرية لمعركة الأمم وهناك من المؤرخين والعلماء (ونحن منهم) يعتبرها الحرب العالمية الأولى، وإذا كان في هذا التقييم بعض المبالغة، إلا أنها بنتائجها اللاحقة مثلت المقدمات المادية لها، قادت إلى الحرب العالمية الأولى بحق وحقيق. ولم تكن معركة واترلوا، التي أنهت المشروع البونابارتي، إلا تواصلاً تكتيكياً واستراتيجياً مع معركة الأمم. ثم إلى معركة واترولو ونهاية المشروع النابليوني قادت إلى توحيد ألمانيا كنتيجة حتمية لدورها البارز في الحروب النابليونية، وترسيخ وتأكيد للقيادة البروسية التي سعت إلى توحيد ألمانيا، وأطلقت الوحدة الألمانية سباق الماراثون الألماني في نهضة صناعية هائلة، وخلقت بالتالي من ألمانيا أمبراطورية عظمى، راحت تطالب بأستحقاقات الدول العظمى في ذلك العصر(بريطانيا وفرنسا)، وهي ما قادت وخلقت المقدمات المادية للحرب العالمية الأولى. معركة الأمم مثلت النهوض الأوربي بوجه نابليون، ومن أبرز ملامحه تكمن ليس في أشتراك بروسيا في التحالفات الأوربية فحسب، بل وكسبها موقع قيادي مهم في هذه التحالفات.
هكذا نقرأ التاريخ، ليس كرونولوجياً، بل في دراسة عميقة للتشكل التاريخي الذي يفضي إلى نتيجة جديدة حاسمة، ودراسة الحروب بوصفها صدام سياسي، أما مفردات الحروب: القوى من حيث حجم المتدخلة، وأعداد المتحاربين وتفصيلات المعارك، فهي تقارير عسكرية، المؤرخ يدرس النتائج النهائية. وبتقدير من لا يدرس التاريخ بوصفه تراكم مادي، تحكمه قوانين علمية، سيبقى حبيس فكرة بسيطة، لا تثري علم وفلسفة التاريخ.
قراءة ممتعة
ــــــــــــــــــــــــــ
لوحة الغلاف: الأمير فيليب أمير الجبل الأسود يبلغ المتحالفين نبأ النصر على جيوش نابليون في لايبزغ. رسم يوهان بيتر كرافت 1817
1 . الحروب النابليونية
بتاريخ الثاني من شهر كانون الأول/ 1805 أنتصر نابليون في معركة أوسترليتز Austerlitz التي أطلق عليها فيما بعد بمعركة القياصرة الثلاث على كل من روسيا والنمسا، وبذلك مهد الطريق لقيام تحالفات سياسية / عسكرية أوربية، ومنها انطلقت بالتالي سياسات أوربية وأفكار توحيد أوربا من خلال وحدة مصائر شعوبها، والتقارب في الثقافات الأوربية القائمة أساساً على الأسس المسيحية الذي مثل Fundament القوام (الأساس النظري) للتطورات النظرية والعملية في الحياة السياسية والاجتماعية الأوربية حتى العصور الحديثة (الثورة الصناعية) وما تزال المسيحية (رغم العلمانية) تشع حتى عصرنا الحاضر بتأثيرها الفكري ووجودها في الحياة السياسية بهذه الدرجة أو تلك من الأهمية.
نابليون بونابارت : هل هو طاغية أم مصلح ..؟ تساؤل مهم إن طرحنا مجمل تأثيراته في الحياة السياسية الأوربية، في محاولة لتجذير فكرة الوحدة الأوربية ومنحها البعد التاريخي لإكسابها مزيد من الشرعية والأصالة، ما هي العبرة من ذلك حقاً.
والحق أن تسامي الثقافة وعملية التحضر تعتبر موضوعة أكبر من تلك بكثير وأعمق جذراً، ومن المعقول بل من الجائز القول أن الثورة الفرنسية بإرهاصاتها وإفرازاتها منحت تلك الأهمية التي تستحقها، ولكن من الصعوبة إرجاع هذه التطورات مباشرة للحقبة النابليونية لوحدها بالحروب التي اكتنفتها وأكتوت أوربا بنيرانها وويلاتها، بل والأصح أعتبار أنها تعود بجذورها حتى إلى ما قبل عصر النهضة. فما مذهب السكولاستية Scholaticism ومساعي القس توما الأكويني (Tommaso d,Aqueno)، إلا محاولة كبيرة لتجسير العلاقة بين اللاهوت والفلسفة، بسبب عمق جذور الفلسفة في أوربا، فهي موجودة حتى قبل المسيحية. ففي الوقت التي كانت الأفكار الفلسفية / السياسية ومنجزات الحضارة اليونانية، رائجة في أوربا منذ ما لا يقل عن 450 عاماً قبل الميلاد، فيما لم تتخذ الإمبراطورية الرومانية المسيحية كمذهب رسمي للدولة(في إيطاليا) إلا بعد 325 ولم تتوقف قط عملية التراكم والتبلور في الموضوعات السياسية الرئيسية منذ ذلك الحين.
أما عصر النهضة Renaissance والليبرالية والتنوير، فقد كان قد فتح الأبواب على مصراعيه وجعل الاحتمالات الكبيرة ممكنة، ومن تلك ما كان يعتبر إلى ما قبل سنوات قليلة خطوط حمراء جهنمية، التقليص الحاسم لدور الكنيسة، الدور الأكبر للمثقفين، تنامي مهم لدور الطبقة الوسطى ومؤسساتها، مقابل تضاؤل كبير لدور الإقطاع، وأخيراً ها هي إفرازات الثورة الفرنسية تفتح النار على الملوك والقياصرة دون مواربة، وتطيح بقيم واعتبارات، تلك التي كانت من المناطق المحرمة، وكان مجرد التفكير فيها من الأحلام المستحيلة.
ولا يمكن اعتبار أن الحروب ضرورة تاريخية لنشر العدالة وقيم الحرية، فهذه فكرة تنطوي على استبداد وطغيان، أن يحاول فرد أم كيان سياسي نقل تجربته بتفاصيلها العامة والدقيقة إلى أمة أخرى، ففي ذلك إجحاف وتنكر لتجربة أي بلد في التطور والارتقاء.
ونابليون الذي ولد في 15/ آب ـ أغسطس / 1769 من جذور إيطالية على أرض جزيرة كورسيكا التي لم تكن تابعة لفرنسا (لم يكف الكورسيكيون عن المطالبة بالأنفصال) إلا في العام السابق لولادة نابليون. وعندما أعلنت الجمهورية ومبادئها الشهيرة الثلاث : حرية ـ مساواة ـ أخاء، في عام 1792، ولم يكن الضابط الشاب نابليون يبلغ أكثر من الثالثة والعشرين من العمر من عائلة كورسيكية نبيلة، لكنه سيتصدر الأحداث ويغدو نجمها اللامع، ولذلك بالطبع مغزاه الكبير، فلولا الثورة ومبادئها، فلن يكون مقدراً لنابليون الكورسيكي (الذي لم يكن يجيد حتى اللغة الفرنسية وحين تعل مها كان يتحدثها بلهجة كورسيكية لازمته إلى الأخير) أن يصبح غير جندي أو ضابط مجهول في جيش الإمبراطورية، وهنا تكمن الأهمية في سياق فهم أهمية التطورات التي طرأت على الفكر السياسي، بل وعلى طبيعة هيكلة الدولة والمجتمع وانعكاساته على مؤسسات الدولة، ونذيراً بالغ الأهمية للدور المحتمل للقوات المسلحة سياسياً بالدرجة الأولى.
وبعد خمس سنوات فقط، ستضطر الإمبراطوريات العتيقة في أوربا توحيد قواها، وكان من الشائع في ذلك الوقت تصاهر العائلات الملكية الأوربية، مما كان يوحد أواصرها من جهة، ومصائرها من جهة أخرى. لذلك خلق التكتل الأوربي الأول 1792 ـ 1797 بين فرنسا والنمسا ضد بروسيا. وفي غمرة الأحداث التي كانت تتطور وتطرح تبلورات جديدة، تدفع بنابليون ليحمل رتبة جنرال قائد فرقة في حامية باريس. وبعدها بسنتين فقط يصبح نابليون رمز التحولات الجديدة، قائداً لجيوش الوطن وهو في سن السادسة والعشرين سنة فقط .!
وبمعركة آركولو الحاسمة ضمت فرنسا إيطاليا إليها في كيان سياسي واحد، وكانت الثورة الفرنسية قد أعلنت دون بجلاء، أنها تهدف إلى توسيع ثورة العدالة والمساواة في لأوربا، وتطرح بذلك للمرة الأولى بواعثاً Argomentation غير سياسة (الهيمنة والضم والإلحاق)، وإن كانت في جوهرها كذلك، إلا أن رياح التغير كانت قد هبت فعلاً لا محالة.
وبحملة نابليون على مصر، فهو لم يقم بما فعله قياصرة وأباطرة سابقون، كقادة الإمبراطوريات الإغريقية والرومانية، في توجههم صوب الشرق الكبير الغني القديم الغامض فحسب، بل أن نابليون أراد أن يمنح حملته مغزى جديداً في نشر الثقافة والعلوم ومبادئ الثورة. ففي 19/ أيارـ مايو / 1798 نزلت قوات الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابارت على البر المصري، وما لبث أن سحق جيشاً مملوكياً بتاريخ 21 / تموز ـ يوليه / 1798 ثم صار له احتلال مصر، ولكن ليس بدون مقاومة ضارية أبداها السكان، إن في مصر، أو خلال غزوه بلاد الشام حيث جوبه بمقاومة ضارية، تسببت في نهاية حملته إذ لم تبلغ إلا عكا فحسب، وعادت أدراجها.
والعدد الوفير من العلماء والخبراء يشير إلى هدف معلن للحملة الفرنسية : عصر التنوير، فالحملة كانت تضم في عدادها إلى جانب الخمسة وثلاثون ألف جندي :21 من علماء الرياضيات ـ 3 فلكيين ـ 17 مهندساً ـ 13 من علماء العلوم الطبيعية ـ 4 من المعماريين. ولابد أن هذه الأرقام كانت تعني شيئاً مهماً في تلك الظروف، إنما كانت محاولة أن يمنح الغازي المحتل لحملته وأستعماره لمصر طابع التبشير الحضاري والثقافي. وإذا كانت هذه الأرقام تعد مهمة لمصر التي كانت غاطسة في مفاسد المماليك، لكن الحملات الفرنسية كانت مدهشة للأوربيين أنفسهم على ما تنطوي عليه من قوة إشعاع جديدة، قد لا يكون لشخصية بونابارت الدور الأول الحاسم .
ونابليون في سنه قوانين الإدارة البورجوازية في ألمانيا، وكانت من قبل تحت إدارة وهيمنة الأكريلوس الديني والقياصرة وأمراء الإقطاع، أزال وبقوة أمتيازات النبلاء، وأعاد نابليون تقسيم ألمانيا من جديد، ومن مئات الإمارات، جعل منها نابليون 30 إمارة ومن بقع أمارات لا أهمية لها صنع مملكة فيستفالن وأقام نظم إدارة حديثة، بل وأمر بزراعة أشجار الحور على الطرقات ليسير جنوده تحت ضلالها، وسن القوانين وأسس قيماً واعتبارات جديدة. معلناً الإفلاس النهائي لعقيدة الأولترامونتانيه Ultramontane التي تكرس سلطة البابا السياسية على الحكومات المسيحية، وهي دون ريب جوانب إيجابية تستحق التأشير بدقة.
ومضى الموقف السياسي والعسكري يفرز معطياته الجديدة على مساحة أوربا، وفي 6 /آب ـ أغسطس / 1806 قبل القيصر فرانتز الثاني الإنذار النهائي Ultimatum من نابليون وبذلك كانت نهاية الإمبراطورية الرومانية المقدسة للشعب الألماني، وبعد سلسلة من الحروب بدت فيها فرنسا سيداً لا يقهر في أوربا، وكانت جذابة في مجال الفكر والتحرر، فيما كان جيشها يحرز الظفر بقيادة نابليون العبقرية في عاركه.
ولكن نابليون بدا من جهة أخرى كطاغية، بل وطبع صيته وشهرته بهذه الصفة، يحول أرادته ورومانسية الثورة الفرنسية إلى أفعال، ولكن بعضها كانت ينطوي على نتائج كارثية، عندما حلت كارثة الحملة الروسية التي فقد فيها معظم جيشه المنهك والممزق أشلاء حيال عناد الروس في سهوب روسيا الجليدية، وأصطدم بالدبلوماسية البريطانية، وكانت كل أوربا قد دانت له باستثناء الدولة العثمانية وروسيا وبريطانيا والبرتغال في أوربا، إذ تجمعت العائلات الأوربية الحاكمة وخاضت الحرب ضده وألحقت به خسارة جسيمة في معركة الأمم / لايبزج 1812. مهدت للاندحار الأعظم اللاحق كما هو معروف في معركة واترلو.
نابليون بونابارت كان قائداً، كان غازياً، وكان فاتحاً. هو حاول أن يمنح فتوحاته طعم المعاني السامية ونكهتها، فحاول أن يطرح أن يمنح توسعه طابع تبشير حضاري وهكذا فعل في مصر، حمل للواء الحرية وحرب عل الطغيان والاستبداد وعبر عن ذلك بجلاء يوم تتويجه إمبراطوراً، بأن أخذ التاج من يد البابا الذي كان يتوج تقليدياً الملوك والقياصرة، يريد منها الإشارة " أني صنعت مجدي وسلطني بسيفي لا بإرادتك ولا بمرسوم بابوي ......! "، وتلك كانت إعلان علني صريح إلى قيام دول وحكومات خارج سلطان الكنيسة، وفض التحالف التأريخي بين الكنيسة والقياصرة والأمراء الذي كان يسمى تحالف السيفين ، جلاسنوس Glasnias سيف الكنيسة وسيف الدولة، ولكن التطور التاريخي كان يشير دوماً إلى تقدم سلطة الملوك وإلى تراجع سلطة الكنيسة، وعبثاً كانت تجري محاولات البابوات في استعادة هيمنتهم ونفوذهم الآخذ بالانحسار.
(الصورة : نصب معركة الأمم في لايبزغ)
2 . معركة الأمم 1813
تعد معركة الأمم واحدة (The Battle of Nations) من أهم المعارك الحربية البالغة الأهمية في تاريخ العالم وهي بالدرجة الأولى نتيجة لسياسة التحالفات الدولية العريضة، لمواجهة مشاريع توسع نابليون في أوربا وفي العالم (في مصر وبلاد الشام)، كان ظاهرها ينطوي على شعارات تحررية تنويرية، ولكنها في واقع الحال لم تكن سوى حروب فرض الهيمنة السياسية والثقافية، وسياسة الأمر الواقع. وهذه المعركة مهدت لاحقاً لتشكل القوى العظمى في أوربا، بل ويعتقد بعض المؤرخين وعلماء السياسة، (ونشارك هذه الفكرة) أنه ينبغي وصف معركة الأمم في سياق الحروب النابليونية، هي في الواقع السياسي بنتائجها القريبة والبعيدة على الأرض هي الحرب العالمية الأولى.
وكانت معركة الأمم هي التي قادت بصفة مباشرة إلى معركة واترلوا (وهذه من بين أهميتها) وحسمت مصير نابليون ومشروعه السياسي. حدثت المعركة يوم 16 / أكتوبر ــ تشرين الأول / 1813على مشارف مدينة لايبزغ / ألمانيا (أصبح مكان المعركة اليوم لأتساع المدينة داخل البلدة نفسها)، بين جيش نابليون بونابارت المتقهقرة من روسيا مثخنة الجراح، تعاني ما يعانيه جيش ينسحب من مسافة كبيرة بوسائط ليست آلية (تفوق الثلاثة ألاف كيلو متر) وبخسائر كبيرة في الرجال والعتاد.
المعركة وإن كانت شبه فاصلة بين نابليون ومعسكر خصومه من الأوربيين(بروسيا، النمسا، بريطانيا، روسيا)، الذين رؤا فيه تهديداً مباشراً يتسم بالخطورة الجدية على عروش أوربية تقليدية، لذلك أجتمعت إرادتهم في الدفاع عن أنفسهم، وكياناتهم السياسية وعروشهم، وأن مقاتلة نابليون الجريح أفضل من مواجهته بكامل قواه وعافيته، وهو يسحب أذيال هزيمة مرة وصعبة من موسكو حتى لايبزغ بألاف الكيلومترات على ظهور الخيل وسيراً على الأقدام، وهي يومئذ لم تكن شيئاً بسيطاً.
المواجهة حدثت بين الجيش الفرنسي، وجيوش متحالفة بقيادة السويديين والروس والنمساويون والألمان البروسيون، وجيوش أخرى وكان مجموع الجنود المتقاتلين كان يربو على النصف مليون جندي من 30 أمة أوربية. حيث كانت الجيوش الفرنسية الظافرة وقد أحرزت منجزات كبيرة في أوربا، أضحى فيها نابليون سيد أوربا المطاع، ولكن الحملة على روسيا، التي لم يراع فيها نابليون ثغرات ضعف قد تجلب الهلاك لجيشه ولمصير الحملة برمتها، منها البعد الشاسع لجيوشه عن مراكز إمداد حملته، والمشكلات الكبيرة التي قد يواجهها (وقد حدثت فعلاً) بسبب التموين ومشكلات سببها الطبيعة الجغرافية والمناخية لروسيا (سهوب لا نهاية لها وغابات، وأنهار ومستنقعات وأوحال) التي مثلت مشكلات يصعب حلها حتى بعد 128 عاماً على الجيوش الألمانية رغم تمتعها بقدرات تكنولوجية متقدمة جداً عام 1941 قياساً إلى عام 1813، وكان هتلر قد حسب حسابات الشتاء والثلوج والأوحال، فأبتدأ حملته (بارباروسا) عام 1941 في 22 / حزيران بقوة أعتقد أنها لا تقهر (4,5 مليون جندي) بجيش مدرع وآلي، في موسم مناسب لجهة الطقس، وأعتبر هتلر أن الجيش الألماني سيطرق أبواب موسكو ويقتحمها حتى حلول فصل الشتاء، وتقدمت جيوشه فعلاً إلى أن الألمان واجهوا مقاومة عنيدة في ثلاث عقد : جهة لينينغراد، وستالينغراد، وموسكو، وهنا عاد الخطأ النابليوني يكرر نفسه على يد هتلر.
والخطأ الثاني وهو أساسي أيضاً، هو تنكر الغزاة لحقيقة أن الشعوب ترفض المحتلين، وإذا حدثت بعض الحالات الشاذة، بسبب طغيان الحكام الوطنيين، فتلك حالة مؤقتة، سينتفض الشعب حين يكتشف البسطاء، أو المتعاونين مع العدو، أن المحتل تجشم عناء الأحتلال ليكسب مزايا هامة تفوق خسائره. ومثل هذا الخطأ أرتكبه نابليون ليس في حربه الروسية، بل في إجمالي حروبه التوسعية.
والحقيقة أن الصفحة السياسية هي في نتائجها أهم وأكثر حسماً من سواها، فالملوك الأوربيين أنقلبوا على نابليون، وأهمهم النمساويون والبروس، ورغم أن القوة العسكرية للطرفين كانت متعادلة تقريباً، إلا أن الأفق السياسي لنابليون كان مغلقاً بوجهه، والآثار النفسية للهزائم التي أوصلته إلى لايبزغ، لم تترك شعوب الرافضة في المنطقة له طرقاً سالكة وآمنة، وهكذا تقرر السياسية والمفاوضات الدبلوماسية مصير الجيوش .
وكانت ظروف ومعطيات الهزيمة تفرض نفسها في ساحة السجال الاستراتيجي، وتراكم عناصر وعوامل تشير إلى حتمية هزيمة نابليون وأن التاريخ سيقلب تلك الصفحة، إلى صورة وخارطة جديدة للعلاقات السياسية والاقتصادية. وكانت صورة الوضع العام بعد هزيمة نابليون في موسكو تحمل مؤشرات موقف جديد في أوروبا. فأوروبا كانت في انقسامات وتوترات، وفي إيطاليا فالوضع كان مهتزاً، والناس يعانون من الخسائر في الحروب، التي جندهم فيها نابليون إلزامياً، ووضع البابا مزرٍ في غاية الهشاشة، والنمسا كانت فرض عليها سلام مع فرنسا لم تكن كرامتها لتسمح به فراحت تنتهز الفرض الدبلوماسية اللازمة للقضاء على هذه الأهانه، ودول كونفدرالية الراين تطمح للخروج عن قبضة نابليون وتطوير كياناتها وتحقيق ازدهار ذاتي خاص. واما بروسيا فخرجت حدودها إلى النصف وبالتالي نصف مواردها وهي تراقب الظروف السانحة وروسيا تدعو قلب أوروبا إلى حرب مقدسة للبطش بنابليون
لم يكن الجيش الفرنسي قد تعافى تماماً من النكوص في حملة موسكو، وإن لم يواجه أندحاراً حاسماً، إلا أن الروس والأئتلاف الأوربي كان يواصل الهجمات بلا هوادة دون أن يمنحه الفرصة لالتقاط أنفاسه، وإعادة تنظيم جيشه، وسد ثغراته، وربما حتى إعادة صياغة مرتسمات سياسية جديدة، يضعضع فيها شيئاً من أواصر التحالفات المعادية. وهكذا فقد اجتمعت أسباب الضعف من المقاومة الروسية التي تمثلت بإحراق المدن ليعاني الجيش الفرنسي الجوع، والبرد، ومناوشات دون توقف، فقد كان عدد الجنود الفرنسيين في بداية الحملة الروسية يصل لأكثر من 400 ألف جندي على الخط الأمامي، أما عند العودة في شهر نوفمبر ـ تشرين الثاني/ 1812، لم ينجح أكثر من 40,000 منهم بعبور نهر بيريزينا، أحد روافد نهر الدانوب في روسيا البيضاء أما الروس، الذين كانوا بقيادة أحد عباقرة الاستراتيجية الجنرال ميخائيل كوتوزوف، فكانت خسائرهم أقل بكثير، إذ لم يفقدوا سوى 150,000 جندي ومئات الألوف من المدنيين.
وفي إطار هذا الأفق السياسي، اتحدت بروسيا وروسيا والنمسا والسويد ودول وكيانات صغيرة، في حربها ضد نابليون. وبدأ الحلفاء يحرضون على حرب مقدسة، إذ كانت مختلف الطوائف المسيحية ترى أن نابليون بتنكره لسلطة البابا ملحداً. وفي 27 / حزيران أرسل الحلفاء شروطهم إلى نابليون عبر وسائط دبلوماسية، من خلال الدبلوماسي النمساوي الكفوء مترنيخ، تتضمن " ان يسلم نابليون المناطق التي استولى عليها من بروسيا، وان يترك كل مطالبه في دوقيه وارسو، والدول / المدن الهانسياتيه.. وبوميرانيا وهانوفر وإيليريا وكونفدرالية الراين " وبذلك يمكنه العودة إلى بلاده الأحتفاظ بحدوده الطبيعية لفرنسا دون أن يعترض له أحد،(ولكن ...!) مع إضافة شرط يخص إنجلترا ينص على أن لها الحق في إضافة شروط أخرى، كما إن المتحالفين لن يبرموا اتفاق سلام دون الرجوع إلى موافقة إنجلترا.
وقد تأخر نابليون في الرد على هذه الشروط، التي كانت تضم فقرة قد تنسف أي أتفاق، تتمثل بشرط موافقة بريطانيا ...! والهدنة على كل حال انقضت قبل الرد واستؤنفت الحرب ولكن بانضمام النمسا هذه المرة. وفي غضون هذه المناورات السياسية / الدبلوماسية / العسكرية، كان إجمالي ما لدى الحلفاء من القوات قد بلغ 492 ألف رجل، مع 1383 مدفعاً، أما جيش نابليون الذي التحقت بقواته، فرقة عسكرية دانمركية، ووجبة من المجندين من فرنسا، فأصبح مجموع ما لديه من قوات: 440 ألف رجل. و 1200 مدفع.
وكان البروسيون قد أدركوا ما عاناه جيش نابليون في حملته الروسية، وأدركوا أن الفرصة قد حانت لتوجيه ضربة قوية لنابليون، فتشكل حلف جديد مع روسيا وبريطانيا والسويد والنمسا وإسبانيا والبرتغال، وواجهوا نابليون بجيوشهم، وتمكن نابليون من ألحاق عدد من الخسائر بهم توجت "بمعركة دريسدن" بألمانيا (تبعد نحو 100 كيلومتر عن لايبزغ).
بتاريخ 26 و27 / آب أغسطس/ سنة 1813 ورغم بسالة القوات الفرنسية وإلإدارة الكفوءة للمعارك من قبل نابليون شخصياً الذي كان يشرف رمايات المدفعية (نابليون كان ضابط مدفعية بالأصل) وعلى القتال من مواقع قريبة وبقرب قادته، وأنتصر في معظم معاركه، وإن بتضحيات وخسائر عالية في الأفراد والمعدات، واستنزاف دون تعويض في الذخائر والمؤن، وهنا تكمن المسألة الجوهرية : وإذا كان الحلفاء يسدون النقص في خسائر الأرواح والمؤن لقرب مراكز التموين منهم، وهو ما كان يتعذر على الجيش النابليوني تداركه، وغالباً ما يطلب نابليون مثل هذه الإغاثة والتموين وسد النقص من مناطق غير قريبة كإيطاليا وفرنسا، وهو أمر كان تكتنفه صعوبات ومشكلات لوجستية (Logistic Problems)، ولعب العامل الحاسم المتمثل ببعد الجيش الفرنسي من قواعده ومحيطه الشعبي / الأفراد، والاقتصادي / التمويني في الذخائر والتموين. وكانت هذه عوامل مؤثرة حتى على معنويات الجنود في ابتعادهم عن عوائلهم.
وعلى الرغم من نجاحات عديدة حققها جيش نابليون إلا أن ذلك لم ينل من عزيمة الحلفاء، فزادوا من أعداد جيوشهم، فواصلوا تعزيزها حتى هزموا نابليون هزيمة حاسمة في "معركة الأمم" بقوة عسكرية بلغ حجمها ضعف حجم جيشه. كانت هذه المعركة أكبر معارك الحروب النابليونية، حيث وصل عدد القتلى فيها من الطرفين إلى 90,000 قتيل. ودارت رحى هذه المعركة التاريخية (بنتائجها) في محيط مدينة لايبزغ معارك طاحنة، وكان أنتشار قوات الطرفين يبلغ مساحات شاسعة، وكان ألتحاق المزيد من الدول والكيانات السياسية إلى التحالف الدولي المعادي للمشروع النابليوني، أثره الهام، بل الرئيسي في رسم الأفق السياسي للحرب، وبالتالي كان لها إيقاعها على المعركة.
كان جيش نابليون قد ترك وراءه أكثر 3 ألاف كيلومتر في عودة غير مظفرة، وكان قبلها قد قطع أضعاف هذه المسافة في خروجه من قواعده على أرض الوطن الفرنسي، وقد خسر في غضون ذلك الكثير من الرجال، والقادة والجنرالات، وبعضهم أنظم للعدو( الجنرال مورو الذي كان مهاجراً إلى أمريكا بسماح حكومته الفرنسية له بذلك إثر ارتباطه بمحاوله اغتيال نابليون، وقد قدم للحلفاء استشارات هامه في شأن خطط نابليون وتكتيكاته إذ نصحهم بالدرجه الأولى الا يقدموا على معركة يخطط لها ويعدها يحدد توقيتها نابليون، وأن الخيار الأمثل أن تخاض كل معركة عندما يكون بعيداً منها)، وفر آخرون من أرض المعركة (ثم انضم جيش بافاريا في 18 / أكتوبر إلى صفوف الحلفاء بعد أن كان بين صفوف مقاتلي نابليون، وغدا هدف الحلفاء الذين تتعزز قواهم، مقابل ضعف متواصل لنابليون، أن يستولوا على ليبزغ وأن يحسموا الحرب تنزل فيها قواتهم المتحدة هزيمة استراتيجية لنابليون)،
وفق هذه المعطيات السياسية والعسكرية لم يعد أمام نابليون أفق، وها هو يستعجل العودة للوطن، ويقبل مقترحات هدنة لعبت الدبلوماسية الذكية في صباغة بعض فقراتها فجعلتها مبهمة (الشرط البريطاني)، وأخرى غير كريمة، حيكت فقرات المشروع بدهاء وخبث، (يشبه قرار مجلس الأمن 242 عام 1967) وترك سقفها مفتوحاً، وما لبث الحلفاء أن أهملوا مشروع الهدنة المقترح، حين أيقنوا أن وصول نابليون إلى عرينه أمر محفوف بالمخاطر وينطوي على مجازفة، كما أنهم أيقنوا أنه بقبوله المشروع، فإنما يدل ذلك أن أوضاعه تعاني الضعف والتدهور .
ومن تراجع لآخر، إلى " إعادة انتشار" والحلفاء يواصلون اختراق جبهاته، حيثما تيسر لهم ذلك، ويسدون النقص في جيوشهم، حتى دخلوا باريس وأنتهى أمر النظام النابليوني بأسره، وأبرم الحلفاء معاهدة عُرفت باسم "معاهدة فونتينبلو"، اتفقوا فيها على نفي نابليون إلى جزيرة صغيرة تُدعى "ألبا" تقع في البحر المتوسط على بعد 20 كيلومترًا من شواطئ توسكانا، ويقطنها 12,000 نسمة، فسيق نابليون إلى جزيرة ألبا في البحر المتوسط الغير بعيدة عن الساحل الإيطالي والسواحل الجنوبية لفرنسا، وأعطوه سيادةً كاملة عليها، وسمحوا له بالإبقاء على لقبه كإمبراطور.
حاول نابليون الانتحار عن طريق ابتلاع قرص سام كان يحمله معه منذ أن كاد الروس يقبضون عليه عند انسحابه من موسكو، إلا أن فاعلية السم فيها كانت قد خفّت مع مرور الزمن، فلم تقضي عليه، ليتم نفيه كما هو خطط له الحلفاء، بينما هربت زوجته وابنه ليحتميا في ڤيينا، وقام نابليون بإنشاء جيشًا وأسطولاً صغيرًا خلال الأشهر القليلة الأولى التي أمضاها في ألبا، كذلك قام بتطوير مناجم الحديد، وأصدر عدد من المراسيم لتطوير طرق الزراعة في الجزيرة وفق الأساليب الحديثة.
3. النهاية الحاسمة
ولم يمكث نابليون في جزيرة ألبا سوى نحو سنة واحدة، إذ بلغته أنباء الخلافات بين الحلفاء الأوربيين، خلافات توشك على إشعال نيران الحرب فيما بينهم، قرر نابليون العودة إلى فرنسا وتسلم مقاليد الأمور فيها.
وفعلاً عاد الأمبراطور (أواخر فبراير / 1815) والجيش الذي أرسل للتصدي له، قابله الجند بالتأييد، وحاول أن ينحو منحى إداري ويطلق الحريات، ويعيد بناء الجيش الفرنسي، الذي بلغ تعداده 200 ألف رجل، وقرر أن يستبق الأحداث ويجهض تحركاً للحلفاء فدخل الأراضي الهولندية والبلجيكية، وحقق بعض النجاحات، ولكن الحلفاء أدركوا خطورة إذا ما أستعاد نابليون قواه وقدراته، فأستعادوا تماسكهم وقرروا مواجهته بقوة، فتوجهت الجيوش البروسية والإنكليزية ودارت معارك عنيفة حسمت في نهاية المطاف لصالح الحلفاء في معركة واترلو 18 / حزيران ــ يونيو / 1815 . وتمكنوا من القبض على نابليون ونفيه (15 ــ يوليو ــ تموز / 1815)هذه المرة وبشروط قاسية إلى جزيرة سانت هيلانة (ملكية
بريطانية) في جنوب المحيط الأطلسي، حتى توفي هناك عام 1821 وهو في الواحدة والخمسين من عمره.
(الصورة : المعركة الأخيرة : واترلو حزيران / 1815 ــ الرسام Willam Sadler )
1428 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع