نوري جاسم المياحي
خواطر شيخ مريض
في الايام الاخيرة بدأ ناقوس الخطر يدق معلنا ان القلب قد اضناه العمر والنكبات .. وبالأمس اخذني ولدي وابنتي الى منطقة الحارثية لمراجعة اختصاصي الامراض القلبية بعد ان شعرت ان القلب بدأ يستصرخ عزرائيل لإيجاد حل لمتاعبه بعد رحلة الحياة الطويلة والمريرة ...مرت سيارتنا بالمنصور فجلب انتباهي ان الجامع العملاق الذي وضع صدام حسين حجره الاساس لازالت هياكله الكونكريتية قائمة ومنتصبة بشموخ شاكيا لله حقد البشر وجهلهم ..لأنه وكما يقولون انه بيت من بيوت الله وليس من بيوت صدام فمنذ السقوط وحتى يومنا هذا والرافعات العملاقة تشكو للباري خسة وحقد البشر لإهمال اكمال بيت من بيوت الله التي يدعوا الاسلام لتعميرها وهو من اروع التصاميم الهندسية التي انجزها العقل العراق وفي ارقى بقعة من مدينة بغداد ...فحز في قلبي اهمال هذا المعلم الديني والحضاري وحتى السياحي لو اكمل بحجة ان من بدا به صدام ؟؟
ليس واضحا للناطر من خارج السياج من في الداخل وهل استغلت المساحات المحيطة ولمصلحة من ...كنت اشعر بالحسرة والالم وانا اجتاز الشارع العام في المنصور والمحاذي للجامع المذكور ...وقبل ان اصل الى نهاية السياج لفت انتباهي صورة كبيرة جدا للمرجع اليعقوبي ولم الحق لقراءة ما مكتوب تحتها ... ولكن من المعلوم ان هذا المرجع هو العراب لحزب الفضيلة والذي وضع اليد ارض الجامع وملحقاته كما يشاع وكما فعلت كل الاحزاب التي طافت على السطح بعد الاحتلال الامريكي وهو محسوب على الاحزاب الاسلامية الشيعية والمشاركة بحكم العراق وفي قطاع النفط بالذات ومنذ الاحتلال وحتى يومنا هذا ...
ومن له خبرة ومعلومات عن ثمن الاراضي والعقارات في بغداد يعلم ان ثمن هذه المنطقة لا تقدر بثمن وحتى بالفضة والذهب اي يعتبر كنز لمن يضع اليد عليه ...وهنا ضربت مخي زوبعة عاصفة من الاسئلة التي لا تليق بدعاة الاسلام ...ولو انني ضعيف في الثقافة الدينية ولكنني اذكر انني سبق وان قرات ان الله والرسول وحتما الائمة من اهل الكل يدعون الى اعمار بيوت الله ...اليس هذا الجامع والذي لا اعرف حتى اسمه ...اما كان الاجدى الأجدر والأتوب للحزب والقائمين عليه لو اكملوا بناءه وفتحوه امام الشعب وحتى لو كان لأغراض السياحة والدعاية وكمعلم سياحي من معلم بغداد اسوة بدبي مثلا ؟؟؟ وللأسف ابتلينا بأناس يفكرون بأنفسهم قبل التفكير بالشعب وامواله ...
وبعد ان خرجنا من حي المنصور متجهين الى حي الحارثية انتبهت الى بناية مول المنصور وهو ينتصب شامخا ويصرخ ويشكو بصوت خافت ومبحوح الشركة القائمة على تنفيذه وتساءلت ما سبب تأخير افتتاحه واكمال انشاءه وقد مرت على ولادته سنون عديدة ...ولو انني وفي قرارة نفسي اعرف ان سبب تأخير تنفيذ المشاريع هو الفساد وقد كان صدى انينه في ذاكرتي الضعيفة حيث ذكرني بأسواق حسو اخوان وأورادي باك والاسواق المركزية ايام الزمن الحلو وايام الفقر ومع هذا كانت ايام خير لان الفساد لم يكن معروف كما هو منتشر اليوم ...وساترك الحديث عنها اليوم للمستقبل ان سمح قلبي التعبان لي لكي احدثكم لهموم شيخ وعابر طريق
وبعد ان وصلنا الى عيادة الطبيب بالموعد المحدد مسبقا في السادسة مساءا على مراجعة الطبيب وجدنا طابورا مزدحم من المراجعين منتظرين ...وقد تعلم العراقيون على الانتظار الطويل فلم نقلق او نشتكي وحتى لم نفكر كم سيطول الانتظار لان الزمن في العراق كالحياة والحرية فلا قيمة له ... وسلمت امري لله واشغلت نفسي في محاولة التفكير بالأشخاص الجالسون معي في صالة الانتظار وبدءا بسكرتير الطبيب وهذا ليس مجال حديثنا اليوم ...لأنني احاول قد المستطاع تطبيق نصيحة استاذي بهلول الكظماوي والتي احترمها واحترمه شخصيا ...فقد نصحني بالاختصار عندما اكتب كي يتسنى للقارئ اكمال القراءة ...لان الناس تعبانة وما عندها واهس تقرة مثل ايامنا ايام زمان ...
واثناء انتظارنا لفتت انتباهي دخول العيادة امرأة متوشحة بالسواد ومنقبة ولا يظهر من نقابها سوى عينيها التي توحي لك انها ليست صادقة في كلامها و قصتها وهي تردد عبارات حزينة عن زوج مريض وليس خفيا ان اختيارها عيادات الاطباء ومناشدة المرضى على المساعدة ...ومن الناحية النفسية فالمريض يكون مستعدا لتقديم المساعدة لان هو ايضا بحاجة للمساعدة المعنوية وربما ايضا المادية وتطبيقا للقول الشائع بين العراقيين (ارحم في الارض يرحمك من في السماء) ...فمددت يدي لها بما قسم الله ..واستمرت المرأة في جمع رزقها ..
ولكن الموضوع لم ينتهي عند هذا الحد فالتفت ولدي لي ليقص علي قصة صديق له يمتلك محل صرافة فقد اقسم ان احدى الشحاذات (المگديات) ترسل ولدها الشاب اليه يوميا لتبديل ورقة دولار اي مئة دولار او ما يساوي 125 الف دينار ... عندها اخبرته ان الشحاذة (الگداية ) من المهن المربحة والمربحة وبدون تعب والتي تدر اموالا طائلة ... ويشاع ان من يمتهن هذه المهنة لا يستغل هذه الاموال للترفيه عن نفسه او تحسين معيشته وانما يكدسها ... لأجل غير مسمى او هدف غير محدد ...وكم من قصة سمعناها من اهلنا حول هذه النماذج من الناس ..
واذكر قصة سمعتها في طفولتي لآمرأة عجوز وكانت تعيش لوحدها في خرابة في المحلة وعلى مساعدة سكان المحلة العينية والمادية فقيرهم وغنيهم... لآنها كانت تمتهن الگدية ... بالخروج للشارع او الزقاق تمد يدها لطلب المساعدة
وفي احد الايام مر عليها الجيران فوجدوها ميتة ولم يعرف احد في ذلك الزمان اماتت موتة طبيعية او بفعل فاعل طمعا في مالها... فسارع الخيرون من طلاب الثواب الى اكرامها بسرعة دفنها في اقرب مقبرة وواروها التراب ...كعادة اهل ايام زمان والتي لازالوا يطبقونها وهي ان كنت تريد اكرام الميت فاسرع بدفنه ...
وعند عودتهم الى المحلة سارعوا بلقاء امام جامع المنطقة حول مصير ما خلفته المرحومة من عفش بائس ..فخولهم بتوزيعها على المستحقين من الفقراء ..ولتنفيذ توصية الامام صدموا بوجود اموال طائلة بقياس تلك الايام مخزونة بفراشها كالمخدة والمنذر و اللحاف ر وحتى في بعض البساتيك (اواني فخارية زرقاء كانت تستخدم لحفظ معجون الطماطم ) ...وبما ان اهالي ايام زمان يخافون الله ويكرهون الحرام ...فقرروا المحافظة على المال والرجوع لأمام الجامع والذي قرر وضع المال تحت تصرفه لتوزيعها على المستحقين من الفقراء .. وفعلا تم نقل المال الى الجامع وكلهم مقتنع وعلى ثقة بانه اصبح في ايادي امينة وعادوا الى بيوتهم ليحدثوا نسوانهم بالقصة وبالتفصيل الممل ..
وهكذا انتشرت وشاعت القصة تجترها السنة نسوان المحلة ...بين الاستغراب والتعجب وحتى الاستهجان ... وكانت القصة تنتقل من امرأة لأخرى وفي كل نقلة يضاف اليها فلافل وبهارات واصبحت حديث المجتمع اللا مخملي البغدادي بعد ان تجاوزت حدود المحلة الضيقة الى المحلات الاخرى واستمرت لعدة اشهر تتناقل على السنة العامة غرابة وتعجبا ..والبعض منهم يحرض على عدم مساعدة الشحاذين لانهم اغنياء ودجالة
ولم تمر دقائق معدودة على مغادرة الشحاذة للعيادة ..الا ودخلت شحاذة ثانية وهي طفلة صغيرة يتراوح عمرها 8-10 سنوات وترتدي دشداشة صفراء وسخة وتنتعل نعال اسفنج وسخ ويبدوا ان شعر راسها لم يمسه ماء لأكثر من اسبوع ويبدوا لي انها من متطلبات الشغلة وتمد يدها تستعطي عطف المرضى ومرافقيهم وتتمتم بكلمات قليلة وبصوت يكاد لا يسمع ...فبادر شاب ثلاثيني اعطاها اصغر ورقة نقدية ويبد وا لي انه من رجال الامن لان شكله ونظراته ولحيته مخيفة ومرعبة وتحت قميصه اخفى مسدسا ومع مرافق وايضا مسلح ..
وقد جلب انتباهي ولفت نظري ان الاثنان يلبسان احذية محترمة ولكن بدون جوارب وعندما استفسرت من ابني عن عدم لبسه ومرافقه للحذاء بدون جوارب فأجابني هذه مودة جديدة (موظة) دايرة هاي الايام ...فتذكرت ان اباءنا واجدادنا ايام زمان في بداية القرن العشرين لم يعرفوا لبس الجواريب ... وقد تفسر اما لعدم معرفتهم بها او لتسهيل عملية الوضوء قبل الصلاة ومن المعروف آنذاك انهم لم يكتفوا بهذا وانما كإنو يتجنبون لبس الحذاء ابو القيطان وانما بلا قيطان والذي كان يسمى ( بالقبغلي ) ..كي لا يتأخرون في نزعه عندما يتوجهون للصلاة
وبعد ان اعطاها الشاب الورقة النقدية استدارت الطفلة واتجهت الى باب العيادة للخروج ...فلفت انتباهي ان اظافر قدميها الوسخة مصبوغة بالصبغ الأحمر فلفت نظر ابنتي مستغربا ...ولكنها وكامرأة كانت أدق مني ملاحظة فشاورتني بصوت هامس وبنبرة مستهجنة الى ان الطفلة صابغة شعرها باللون الذهبي ...وهنا حلقت في تفكيري ومع نفسي بعيدا وتساءلت أيعقل ان براءة هذه الطفلة البريئة تركت سليمة ولم تمس لحد الان وهي تسرح وتمرح بين قطعان من الذئاب البشرية ودولة الفوضى وغياب القانون ؟؟؟في مجتمع اصبح الفساد القيمي والاخلاقي ظاهرة طبيعية وغير مستهجنة كأيام زمان ...ايام ما كان الفقر عفة تتفاخر به العوائل المتعففة والفقيرة ..
لاشك ان هناك قصص عديدة واسباب متنوعة وظروف تدفع الناس للشحاذة ولا يمكن ان نتجاهل الوضع الاقتصادي والفقر والجوع والثقافة المجتمعية وتغير اخلاق وطباع الناس والضروف السائدة كالحروب والتهجير والظلم وضعف النظام وغياب القانون كلها عوامل مساعدة لانتشار ظاهرة الشحاذة (الگدية ) ...ومما يثير الالم والحزن في نفسي ان العراق تحكمه احزاب اسلامية والمفروض بهذه الاحزاب ان لا تبقي فقيرا في المجتمع لأنه احد ركائز الاسلام الحقيقي هي محاربة الفقر وكما علمونا كأطفال في المدرسة...وللأسف اثبتت التجربة انهم كاذبون ودجالون ويستخدمون الاسلام كغطاء وجسر لتحقيق اطماعهم الشخصية
اللهم احفظ العراق واهله اينما حلوا او ارتحلوا
الگاردينيا: سلامة قلبك أستاذنا العزيز الغالي.. صحة و سلامة انشاءالله تعالى.
1158 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع