كيف نحمي مجتمعاتنا من الخرافات؟

                                          

                     د. محمد عياش الكبيسي

كيف نحمي مجتمعاتنا من الخرافات؟

تنتشر في مجتمعاتنا المحافظة والمتديّنة بعض الخرافات الملتبسة بالدين والتي تهدد نسيج المجتمع وروابطه الأسريّة فضلا عن إخلالها بالمنظومة الفكرية وفتح المجال لحالة من الاضطراب والقلق النفسي والمعرفي.
من الكلمات التي تشيع اليوم دون علم دقيق ولا حصانة كافية والتي لها انعكاس خطير في حياة الناس (الحسد، والعين، والمس، والسحر)، وهي كلها مصطلحات شرعية من حيث الأصل، لكن طريقة تعاطي الناس معها أخذت منحى آخر بعيدا عن مقاصد الشرع.
حذّرنا الإسلام من الحسد لأنه خلق ذميم بنفسه، وخطير بآثاره، والحسد إنما هو تمنّي زوال النعمة عن الغير، وقد يظهر هذا التمنّي بإشارات الكلام أو محاولة الانتقاص من المقابل أو بعداوة لا مسوّغ لها ومحاولة الإضرار لا لذنب ارتكبه المقابل، فهذه كلها داخلة في باب (الخُلق السيء)، ولا شك أن هذا يكدّر صفو العلاقات ويثير الخصومات والعداوات، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا) رواه البخاري.
فالدين إذاً وضع الحسد في إطاره الأخلاقي، بمعنى أنه خلق مذموم يؤدّي إلى التباغض والتدابر ويفكك عرى الأخوّة الإيمانيّة، هذا هو منطوق الحديث وهذا هو سياقه.
إلا أن الخرافة جنحت بالحسد من مفهومه الأخلاقي إلى مفهوم آخر لا يمت إلى المفهوم الأول بصلة، فصار الناس إذا أصابتهم مصيبة حتى لو حادث سيارة أو مرض طارئ أو رسوب في الامتحان تذكروا الحسد والحاسدين، واستعرضوا قائمة الأقرباء والأصدقاء لينتقوا منهم ذلك الذي كان السبب في هذه المصيبة! وقد يتبيّن لهم بالشواهد والقرائن أن هناك أكثر من شخص، كلهم قد تمالئوا وتعاونوا.
وإذا كانت القرائن لا تكفي فهناك بعض (الشيوخ) الذي يعتقد العامة فيهم أنهم ربما يعلمون الغيب، وهذا يكفي منه كلمة واحدة أن يقول لصاحب المصيبة (أنت محسود)! هنا لا يُسأل الشيخ عن مصدره في هذه المعلومة، لأنها ستجد طريقها إلى القلب دون تردد أو استئذان، فالطالب لم يرسب بسبب إهماله بل لأنه محسود، والحادث لم يحصل بسبب تجاوز السرعة والانشغال بالجوال، بل بسبب الحسد..وهكذا.
إن الخوف من الحسد أو من الاتهام بالحسد جعل الناس تتدابر وتتقاطع، فكان مؤدّى ذلك مخالفا لنص حديث البخاري (ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا)، كما أنه متضمن لسوء الظنّ بالمؤمنين وهو مخالف أيضا لصدر الحديث (إياكم والظنّ فإن الظنّ أكذب الحديث)، فانظر كيف سلبت الخرافة مدلول الحديث، وعكست تأثيره تماما، فأصبح الخوف من الحسد أشدّ من الحسد نفسه.
ثم هناك مخاطر لا تقل عما تقدّم، فالمجتمع الذي يعلّق كل إشكالاته وإخفاقاته على عين الحاسد متى يتاح له أن يراجع نفسه وأن يتعلم من أخطائه وأن يهتدي لمفاتيح الحل والأخذ بأسباب النجاح؟
ثم هذا الذي يصدّق (الشيخ) في مسألة بهذه الخطورة بلا دليل وكأنه يعلم الغيب، أو يعتقد في الحاسد أنه قادر على تدمير سيارته وتغيير نتيجته في الامتحان، ماذا بقي له من عقيدة التوحيد والتوكل على الله؟;
2-3
حقيقة أني لم أكن أعلم أن وراء هذا الهوس الأعمى بالخرافة بُنية ثقافية كبيرة، تجنح بشكل واضح إلى تفسير كل شيء بعيداً عن العلم والواقع، وتبحث عن أي سند ديني ولو كان واهياً، بل ولو كان فيه تشويه للدين نفسه.
أقرأ لأحدهم -وهم كثر- عن تأثير العين في حياة الناس: (إن أكثر من %50 ممن يموت من المسلمين هو في الأصل بسبب العين!) ويضيف: (إن الكثير من الأمراض العضوية والنفسية والعصبية التي يعجز الأطباء عن معرفة سببها هي من أثر العين.. كأمراض المفاصل والخمول والأرق والحبوب والتقرّحات والنفور من الأهل والبيت والمجتمع والدراسة)، وهناك أيضاً (العين السمّية) التي تبث السموم فتتلف خلايا المخ (فقد يصاب الإنسان بعين سمّية في رأسه فتتلف خلايا مخه فيصاب بالجنون)، والشياطين حاضرون في المشهد أيضاً (فالإنسان الحاسد العائن يكون مصحوباً بالشياطين، ومن خلاله يتسلطون على المحسودين)، وأما مستند هذا التشخيص فهو حديث يسوقه الباحث هكذا: (أكثر من يموت من أمتي بعد كتاب الله وقضائه وقدره بالأنفس، قال البزار يعني العين!.. ومن وجه آخر: إن أكثر هلاك أمتي في العين)، والباحث لم يتعب نفسه في تخريج الحديث، مع أن المحدّثين تكلموا فيه طويلاً، ومجموع كلامهم يخرجه قطعاً من دائرة الصحة ومن دائرة الاحتجاج أصلاً.
نقلت لي إحدى الطالبات هذا الكلام ضمن بحث قدمته عن هذه المسألة، وكنت أسألها: هل أنت مقتنعة أن أكثر هلاك المسلمين بسبب العين؟ قالت: نعم! قلت وكيف تجمعين بين هذا وبين ما نراه بعيوننا من قتل واسع في سوريا والعراق واليمن وغيرها، إضافة إلى حوادث المرور والمستشفيات المليئة بالمرضى؟ قالت: وما المانع أن يكون السبب الأول في كل هذا هو العين؟
كنت أنظر بعيداً إلى مستقبل هذه الطالبة، وأنها ربما ستكون مدرّسة لأجيال قادمة، وأنظر أيضاً إلى البنية التعليمية التي ساهمت في تكوين هذه الثقافة، ثم كيف نعجب بعد هذا من ظهور الطرف النقيض وموجات الإلحاد التي أخذت تجتاح كثيراً من شبابنا وبناتنا.
كنت أسأل إذا كانت العين بهذا التأثير الفتّاك فما حكم استعمالها كسلاح ندفع به عن أنفسنا، بعد أن عجزنا عن مجاراة أعدائنا بصناعة الأسلحة المادّية، خاصة أن البحث يشير إلى إمكانية الإعداد والتهيؤ للغزو بها! ويذكر في هذا قصة عن رجل كان يجوّع نفسه لأيام لتكون إصابته أدق وأقوى!
إن إعطاء عين الحاسد أو عين المعجب كل هذه الصلاحيات في الخلق وإن كانت تُشفع غالباً بعبارة (بإذن الله) إنما هو في الحقيقة أشبه بخرافة (الولاية التكوينية) التي يعتقدها غلاة الشيعة بأئمتهم، بمعنى أن الله منحهم صلاحية التأثير المطلق في هذا الكون، فإن قلنا لهم: إن هذا شرك بالله وسلب لخصائص ربوبيّته وألوهيته، قالوا: كيف وهم لا يفعلون هذا إلا بإذن من الله؟
فإذا كانت عين (العائن) تقتل أكثر من %50 من المسلمين، فكيف بعين (الإمام)؟
ثم هل اعتقاد المشركين بأصنامهم يبعد عن هذا؟ والقرآن يقول فيهم (وَلَئِن سَأَلْتَهم: مَنْ خَلَق السَّمواتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ: اللهُ) فأصنامهم ليست سوى أسباب أيضاً!;
3-3
من أغرب ما نُشر مؤخّراً بهذا الصدد تسجيل مصوّر لرجل تبدو عليه هيئة العلماء لكنه تبيّن من الحوار معه أنه كان يعمل سائقاً لواحد من أبرز أهل العلم في زماننا، وفيه يشهد الرجل أن طالباً إفريقياً اسمه عمر كان يدرس في جامعة إسلامية، ثم اعترف لهم أنه من الجنّ بعد حادثة معينة، ومع هذا فقد واصل دراسته حتى أخذ شهادة التخرّج، وأن الرجل كان يوصله في سيارته... إلخ، والذين صوّروا اللقاء ونشروه يبدو أنهم كانوا حريصين ومهتمين بشأن الدين والدعوة ونشر العلم بين الناس! لكنهم لم يفكّروا في حاجة الجنّي إلى الشهادة الجامعية، وما إذا كانت شرطاً للتوظيف عندهم، أو أنه سيتوظف بها في مؤسساتنا أيضاً، بل إنهم لم يفكروا في الوثائق التي كان قد قدّمها للجامعة حتى قبلته طالباً في صفوفها؛ هل كانت وثائق إنسية أو جنّية، أو كان قد ضحك على الجامعة بأوراق مزوّرة، أما أن الأخ السائق كان يوصله بسيارته فهذه قصة أخرى، فالجن يبدو أنهم بحاجة إلى أن يستعملوا سياراتنا أيضاً!
كل هذه المعلومات التي قدمها الرجل سندها أن هذا الطالب الإفريقي قال عن نفسه: إنه جنّي! هذا يكفي لتكون حولها هالة دينية بهذا الحجم وتقدّم على أنها جزء من الدين.
سمعت مرة عن أحد الخطباء أنه حذّر المصلّين من دخول سبعة آلاف جنّي يهودي أرسلتهم إسرائيل لتخريب عقول المسلمين بالمس ونحوه! ذهبت إليه وسألته عن مصدر هذا الخبر، فأكّد لي أنه سمعه عن شيخ ثقة كان يعالج ممسوساً فنطق الجنّي على لسانه وأخبره بذلك، وأن هذا الجنّي واحد من السبعة آلاف!
ورأيت أيضاً تعليقاً لأحد المشايخ الفضلاء على تسجيل مصوّر لامرأة تحاول تقطيع سمكة لكن السمكة تنفر وتضطرب، فقال: ربما هذه السمكة تلبسها جن!
إنك لو أخذت بهذه القصص فستعيش في عالم آخر فلا تدري طلابك من الإنس أو من الجنّ، ولا حتى زملاءك في العمل، والراكبين معك في السفر، بل طعامك الذي تأكله أيضاً، أما إذا أنكرت فإنك تشكك في الدين وتنكر الغيب! لأن هذه القصص التحمت في نظر هؤلاء بمفهوم الدين نفسه!
كنت أنصح أحدهم وأهوّن عليه من حالة الرعب التي تسيطر عليه بسبب خوفه من السحر، وأقول له: إن الله وحده على كل شيء قدير وليس الساحر أو المشعوذ، فقال لكن السحر مذكور في القرآن وإنه سحر عظيم!
لم يفطن صاحبي إلى تكملة الآيات التي وصفت هذا السحر العظيم {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} و {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}، فالسحر العظيم هذا ليس سوى خداع بصري بنصّ القرآن، وهؤلاء هم سحرة فرعون فما بالك بمن دونهم؟
إن الساحر يقلب لك الحجر ذهباً لكي تعطيه عشرة دراهم، ولو كان صادقاً لاكتفى بالذهب.
إن ترسيخ عقيدة التوحيد في الأمة، والفصل بين نصوص الوحي وبين هذه القصص والخرافات، وتشجيع البحث العلمي، مقدمات ضرورية لحماية المجتمع من هذه الفوضى التي تكاد تذهب بعقول الناس، وتدمّر علاقاتهم فيما بينهم، وتشوّه الإسلام نفسه في نظر الآخرين.;



  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1063 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع