شجرة العوسج .... ( أرض التفاح )

                                       

                         بتول الموسوي

 شجرة العوسج .... ( أرض التفاح )

هُناك على مقربةٍ من النهر تسلق بيت صغير من الخشب على خصر شجرة عالية، في أرض خضراء كأنها من سلالة أرض التفاح ،حيث طفق آدم ، وضعف حوآء .
لايربط ذلك البيت بالقريه حيث يقطن الناس سوى طريق ملتوٍ كالتواء حيةٍ فوق رُخام أخضر... تأتيه حاملة بيدها سلة مصنوعة من سعف النخيل وجريدهِ ، تجر ثيابَها السوداء خلفها محركة أعواد القش اليابسة ، وتركلها بقدميها من الأمام وغبار الثرى المتطاير يزيد بالعناق مع ثوبها السحيق , لم يمضِ طويلاً حتى تُبدل السلة من يدها اليُمنى الى اليسرى التي عرّتها الى حيث العضد وقد حرقت الشمس ماظهر منها  .
تقترب أكثر فأكثر ... فترفع يدها اليُمنى وتمسح العرق المتصبب من جبينِها البرونزي وبقايا لدماء سائلة من رأسِها باتت كحِليةٍ حمراء انعكست عليها الشمس مثلما انعكست على قلادتها الفضية الطويلة التي تصل الى نصف بطنها وعلى قرطيها الكبيرين الذين شكلا نصف دائرة لامعة .
يقترب حفيفُ ثيابِها المتلاطم مع حَركة قَدميِها الرافستين ، ونصف القوس في أُذنيِها على وشك أن يطلِق السهم المعلق في خاصرتهِ ، ويَكاد أن يجرح رقبتَها الطويلة التي رُكّبَت على عظمتين بارزتين كأنهما نابا جُنية كَشرتهما بوجه الشمس ، يتدلى على صدرها ضفيرتان تَعَانَقَ بهما شَفقٌ أصفرٌ وصُبحٌ أبيض على ذات الوسادة , مُخلفتان نهاية القلادة من حيث الطول , يرقصان رقصة الافعى .
كادت الجنية أن تنقض على شئٍ مجهولٍ تُخفيه عندما رفعت جِفنان مطليان بسوادٍ يشبه سواد قلبِها البائن من خلف وشائج الدم والحم ، فلاح لونُ عينيها الذي يجمع بين اللون الاخضر والأصفر القاني , مُحاط بهالةِ الكحل الاسطوري , الذي لايَبيعه الا رواد الكهوفِ والمغارات المهجورة , وكأنَّ لسوادهِ عداوةٌ مع أيَّ نظرة حبٍ , ولعنة على ايِّ ودٍّ في ملامحِ وجهِها الإبَريّ .
قَطعتْ طريقَ الثعبانِ كَحية كوبرا تمشي على حذرٍ , حتى دخلت في الباحة التي تُحيط ببابِ البيتِ الصغير فأستقبلتها من الجانبِ الآخر حُوريةُ النهرِ التي رسمَها الظل خيالا رقيقاً كرقتهِ وجمالهِ .
لاحظت آثارَ الدمِ على جبينِها على الرغم من أنَّها قد إجتهدت في أنْ تزوله تماما , فقالت لها :
- ضربوكِ هذه المرة أيضاً , يا أمي ؟
فأجابتها :
- لا عليك يا أبنتي ، ذاتَ يومٍ ستُعاقبُهم شجرةَ العوسجِ _ كما يدّعون_  بما هو لائقٌ بخطاياهم .
جلست (( شجرة العوسج )) على دكة في مُنتصفِ الباحة وقدمتْ فتاتُها الماءَ  دائري ألتقطتهُ بأصابعٍ كأنَّهُنَّ حَربات  أرَدنَ أن يُغرَسنَ بالأناءِ , وجلست الفتاةُ بجنبِها تُفتشُ بالسلة وقد رمت الغطاءَ القُماشي عنها , كأنَّها تبحثُ عن كنزٍ , وعندما التقطتهُ قفزت عالياً ضاحكة , ومِن ثَمَ إحتضنت أمَّها  و إرتخت أغصانُ شجرةِ العوسجِ ملتفة على جسد إبنتِها كما يَلتفُ الماءَ على القاربِ , وكما تَلمسُ  أصابعُ الاميراتِ حباتَ اللؤلؤِ .
أخذت كلٌ مِنهما استقرارَها جالستان , والأمُّ تُلبسُ فتاتَها المدللة الأساورَ الملونة بِرفقٍ ورقةٍ .
- الأم : أراكِ قَدمتي من جانب النهر أين كنتي يا حبيبتي ؟
- ألفتاة : كنت أُسقِي بورود قبر أبي ..
وأذا بشجرة العوسج تكشح وجهَها وتُميلُ به عن إبنتها الى الجهة الأخرى ، وتكاد جنيات روحهِا أن تُمزق الماءَ والهواءَ والخضرةَ من حولِها ؛ من شدة الدوامات الطاحنه بعالمها الداخلي وكأنها صُعِقت بسوطٍ من النار بعشرين لسان بقدر الوريقات التي طَفقت تُخفي بِهنَّ سِرهَا الذي يَرتسِمُ بملامح الخطيئةِ الى حدٍ كبيرٍ ..!! وبدت تهتز و كأنَّها لُسعت بمجسٍ مسومٍ لأحدى حيات صدرِها .
- الفتاة :  وأخيرا بِعتِها يا أمي ... إنتظرتُ طويلاً كي تَجلُبي لي الاساورَ الملونة ..
- الأم : نعم ... يا أبنتي بعتُها ... وبقدرِ فرحتي ببيعِها الا إنَّني جداً حزينة  ..فأنا أحبُّها كثيراً يا حوريتي .
تتكلم شجرةَ العوسج بلغةٍ لاتنطبقُ مع قساوتِها المعتادة وكأنَّ في داخلِها جانبا مضئا ينعكسُ فيه للحبِّ شعاعٌ ... تُكمل وهي سارحةٌ تنظرُ بعيداً , وقد مسكت على إصبعِها وكأنَّها تُحرك خاتم زواج بحركةِ امراةٍ عاشقةٍ مفارقة .... فتقول :
- أحبها على الرغم من إنَّني منذ زمن طويل وأنا أخططُ لبيعِها و كنتُ اتمنى أن أبيعُ معها كلُ ما يتعلق بها من منسيات وذكرياتٍ سحيقة ,ولكن الحب لايموت حتى لو ماتَ كل عرق للحياة في ارواحنا
- الفتاة : هل كل هذا من اجل جبة!!؟
-الأم : لا عليك ياحوريتي ... الاجمل في الامرِ أنَّني جلبتُ لكِ أساوركِ ..
-الفتاة : من أشتراها ...لدي طفق لرؤيته كيف تبدو عليه ...فهي جميلةٌ جداً .
- شجرة العوسج : إشتراها من باعَ نفسَه ... أعني اشتراها من يستحقها ...
ما أن دخلت فتاتُها الى داخل البيت , حتى برزت لتلك الامّ اشواكاً طالما كانت تروضُ روحَها الإبَريَّه على اخفائِها أمامَ ملاكَها البريء ، وأخذت واقفةٌ ، ثم إنحدرت نحو القبر, حتى وقفت عليه وأبليسَ يتداخلُ بها مع كل خطوة تخطوها متجهة اليه.
وقفَت وجسدَها ينفضُ رائحة الحنضلِ على القبرِ كأنما الأيام قد نقفت في داخِلِها بذرةَ موت , وبعد لحظة صمتٍ صاخبة ... وهُنيئة سكونٍ مزمجرة تنطق : -  سأنفض غبار الخطيئة .
 ثم تجلس مخاطبة القبر :
- سأنفضها عنك , وعني , وعن أبنتي التي اصبحت جاهزة لتكون أميرة , سوف أسمعُ البشارةَ قريباً ، سوف يموت, دسته له ، نعم...أنه من أنياب الافاعي وعظام الضفادع ، سأغلق كتاب الليل ،  ستلدني الشمس من جديد , سأوقف مدار عشرين عام وافتح مداراً جديداً لايعلق به شيء من خذلانك ياحبيبي الجبان حينها سأعود (( غرقد ))* ... نعم غرقد ذلك الاسم الذي لا أحب أن اسمعه الا منك ...
قالت هذه الكلمات الاخيره وقد لاحت الدموع على خديها عابره لأسيجة الليل في روحها الصحراوية المحمله بأطنان من الظلام , ووقفت تهم الرحيل مودعة قبرَ الجبانِ بوعيد وعتاب :
- سوف أثأر ممن قتلوك ... وقتلوني ... ويريدون قتلَ ابنتيَ .. سأقتلَهُ بجبتِك التي طرزتُها لكَ .. جبتُك التي كُنتُ اتمنى أن ترتديَها في يوم زواجِنا ... وعندها سأغادرك ، أنا لا أريدُ حبيباً جباناً؛ كان عليك ان تدافع عني وتحمني منه ولا تكتفي بسكب الدموع كالنساء الضعيفات !
وانسابت دموعها على خديِها كامرأةٍ ضعيفة ،فجأة سمعت حفيف أقدامٍ متجهةٍ صوبها ولم يكن في حسابِها أحداً غيرَ ابنتها في هذا المكان ,لأنها لا تسمح لأحد بالاقتراب من بيتها او حتى من النهر المجاور له ؛ متهيبه من ان يرى ايُّ رجلٍ ابنتَها الحورية ؛ فنذير نحسها وشؤمها في
__________________
*غرقد : إسم آخر يطلق على شجرة العوسج
الرجال منذ ذلك الحين . مسحت دموعَها واستقبلت ابنتَها بأبتسامةِ أمٍّ عاكفةٍ على رمحٍ في خاصِرتِها ... سرعان ما جُذت أبتسامتُها بصدمة جعلت من بعض اشواكها  تبرز , سائلة ابنتها:
- من أين لك بهذه ؟
وتقدمت نحوَها متلقفةُ الوردةَ من وراء أذنِها الصغيرة ... فتطاير شعرُ الحورية المُصفف من بين أصابعِها اللحائية كما لو أنَّ جسماً صلداً يَكسُر عسجدَ شمسٍ ممتدٍ على جِناحِ فراشةٍ صفراءٍ.
- زهرة ( الليلك) مره اخرى ؟.
صُعقت الفتاة وراحت تحاول الحصول على رد يهدئ امَّهَا , وكما أنها لم تخبرْها أنَّ أحداً أعطاها أياها حتى لو كان ذلك الأحد هو من ملائكة الربّ الحارسة , فأجابت بعد تلعثم :
- لم اقطفها ... بل وجدتها طافيه في النهر .
بعدم اطمئنان ، وتهدئة لروع الفتاة صمتت الأم ولكنها أوجست الخيفة وكأن تلك الزهرة غولاً ستسحب ابنتَها الى احدى المغارات المشابه لمغارات روحها المتوحشة التي نخرتها افعال البشر .
                        ******
يبدو أنَّ الاميرَ الشيطاني يملكُ جبباً كثيرةً حتى جاء دور (جبة الهبوط) بعد عشرين يوم عندما سقطت آخر ورقة من أوراق التين المخصوفه على سوءتهِ وسوئِه ...عندها سمعت البشارة وهي في السوق , وإذا بالقمر الرمادي يستعيد ضوءه في عيون سعلوة القرية وبدأ قلبها ينفض اولى نفضات الحياة الغائبة . جل ما فعلته هو وقوفها لتسمع كلمات المتساررين بخبر موته فسمعت أحدهم  :
-من الجيد موته ربما سيموت شيئا من ألظلم .
 وسمعت اخر يقول : - أبنُه رجلٌ طيب ستتغير أحوالُ القرية ...
واخَر مندهشاً : -  أوصى الأمير ان يدفن بجبته ... ولا يعلمون لماذا !!
اخِر ماسمعتهُ وهي تجوب صخب الحدادين وزمجرة الحديد الذي بدا صوته هذه المرة يعلو على زمجرة رعيد وشائج عالمها الداخلي ...حتى إنَّها أقفلت أذنيها عندما مرت بجنب أحد الحدادين وهو يضرب على قطعةِ حديدٍ قد تحولت حمراء من شدّة كيَّها بالنار ، ربما قد عرضها للنار عشرون عاما , وأخذ يصرخ عاليا لكي يسمعه صاحبه بأن الملك وأمراء المقاطعات المجاوره والعامه سوف يحضرون الى ساحة الأحتفالات من أجل تنصيب (أيرسل) أميرا على مقاطعة (أرض التفاح) خلفا لأبيه ألأميرالراحل .
الجميع جالس والهمز واللمز يكاد أن يُقطع حبالَ العيونِ وأوتارَ الأصواتِ في تردداتِ الوسطِ الناقل لهما لشدة تقاطعها , والشمسُ تُلقي بمباركتها على عيون ( أيرسل) الذي يقف منتظراً والغضب يَغلي في عروق رأسهِ لما فعلهُ أبوه , حتى جاءت حوريةُ النهرِ والأميرة الكبيرة التي بدت تُضاهيها جمالاً بجانبها , يمشيان الهوينا , وصوت الحاجب يصدح :  ـ تدخل الان الأميره الكبيره ( غرقد) .
وتدخل بعدها حورية النهر يمشيان متخطيتان كثير من الامراء ونظراتهم , وقبل إن تجلس حورية النهر تنحني لذلك الصياد الوسيم الذي رفع يدهُ لها من بعيد حاملا بها وردة ( الليلك) .
والشمسُ لازالت مبتسمة , تشاهد آخر إستدارات فلك أرض التفاح ... الإستدارة التي لم تحتاج سوى شاهدين هما : الشبهُ الكبير بين حورية النهر وبين أخيها الأمير (أيرسل ) , وكلمة خرجت من أمِّه قالتها في لحظة هذيان سحريه منادية شجرة العوسج : (غرقد) وكأنها تهذي تحت دخان ساحر شاطر أكتفى لفضحها بكلمة واحدة , بعدها شهَد كثيرٌ من البستانيين والخدم الصامتين تحت سطوة السوط ...
في حينها اكتفت شجرة العوسج بكلمه واحده لتحريك كل عقارب الأيام العرجاء وتنفض كل غبار الصمت عنها هي :   (( اليوم .... يجب أن ينصب أميرٌ و أميرةٌ لا أمير فقط ))
أما الشمسُ باركتها هذه المرة فربما أرادت أن تحرقُ الظلمَ والخطيئةَ , لأنَّها فرحت كثيراً بعد أن أنغلق كتابُ الليلِ , وراحت تمسح على خدود كل تفاحه في أرض التفاح بحنان .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

876 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع