كيف ..؟! وكيف ..؟!

                                                   

                         يعقوب أفرام منصور

كيف ..؟!  وكيف ..؟!  
(من وحي أيام الحصار وهجمة داعش جالب الدمار)

في يوم22 نيسان 1996 كان كاتب هذه السطور يسمع أزيز طائرات إستطلاع  عدوانية محلّقة فوق مرج ناحية (نمرود ـ الخضِرـ البساطلية) وهو آنئذٍ على تلّة آثارية تُحاذي جُب وديرمار بهنام الشهيد القائم منذ 1500 عام، فكانت هذه النفثة الوجدانية بعد ساعات قلائل من تلاشي هدير الطائرات المزعج:
[ بعد كدّ الصيف وجَني الخريف وجُهد واحتباس الشتاء، لا بدّ من استجمام واستراحة من كلال وعناء لإراحة الذهن والجسم واليراع، فلا معدى حينئذٍ من هدأة واسترخاء وغناء وترتيل، كما لا يُستغنى عن قسط من ضحك ومرح يبدّدان ما رافق ظروف الشهور المنصرمة من جد واهتمام وهموم ومنغّصات ومثبّطات. ولكن كيف يتأتّى للمفكّر أو الكاتب أو الأديب أن يُغنّي ويبتهج ويهزج في الربيع الزاهي؟! وكيف يتيح له مزاجه الحسّاس أن يغتبط بتنشّق الأريج من كل زهر بديع، ودونه غول فظيع، وعدوٌّ طاغٍ، تُزمجر طائراتُه في فضاء وطنه، وقرب منسَكِه أو منتجَعه أو مأواه؛ وتُنذرُ بالبلاء والحرق والتدمير، قادمات من ديار نائية عبر البحار؟! وكيف تدَعُه زمجرة الطائرات أن يجني شقائق النعمان لتقديمها هدية إلى قرينة أو حبيبة أو صبيّة، في حين طائرات الشؤم والخراب توحي له بهديرها صوَرَ النجيع والأشلاء والسعير في الأرجاء والميادين والمنشآت؟
كيف يستطيع شاعر بليغ رهيف الحس أن ينظم للحبيب أنشودة حب وهيام، ولطفله أغرودة، ولأمّه قصيدة، في حين أقدام عساكر الأغراب الأعداء تسحق النرجس، وتدوس السندس والزهور الغضّة بالبساطيل في ربوعنا الحبيبة بين زاخو وبيخال، وبين الزاب وبنجوين، وبين الخازر والشلاّل؟! فها هي نمرود تُنتَهَب كنوُزُها وآثارها، ومروج نينوى تَنتحِب، حيث البابونغ يتأوّه هامسًا:  " ما لي لا أجد بجانبي مَن يقطفني ويريحني من حِملي كسابق أعوام الرَغَد، قبل أن يُميتني الجفاف التموزي، وتذروني الرياح؟!" وهاهي الزنابق الصغيرة تتململ، والسنابل تتشكّى من ندرة الحاصدين، والسنونوهات تتوارى وتهجر أعشاشها! ]
 *     *    *    *     *
غِبّ انصرام أعوام على ذلك الربيع المثقَل بالتباريح والأشجان، تزاحمت على مسمع ومرأى الكاتب أنباء ومشاهد الفواجع والكوارث والمجازر والموبقات التي إقترفها وألحقها أجناد جهنم القرن الحادي والعشرين ـ غُزاة داعش ـ بأرض الرافدين، فكانوا جُناة عُتاة، ليس لبربريتهم ضريب، ولا لشرورهم مثيل في حقب التاريخ. فأفعالهم الشنعاء في مدن الموصل وصلاح الدين وألأنبار وكركوك وسهل مروج نينوى وجبل سنجار والشرقاط بلغ صراخها الوجيع وسخامها الكثيف عنان السماء!
منذ ثلاثة أعوام وأنا أحيا ـ مع آخرين نظيري ـ كما لو كنتُ تحت غمامة سوداء وسيعة البقعة، لا يحلو لي فيها إبتسام ولا انشراح ولا مرح ولا إنشاد وغناء واستئناس وعزف، فهذه كلّها من شأنها أن تخفف عنّي وطأة الشجون وأوجاع العيش ووقع الأنباء المؤلمة الواردة من أصقاع العالم في أعقاب عام 2001، وأخبار أوضار المجتمعات  في أرجاء الوطن والأقطار المجاورة في أعقاب عام 2010. علاوةً على تلك الأحوال العالمية الموحية بتفاقم تردّي الأوضاع، وغياب التفاؤل بالتحسّن وانقشاع الضبابية والتشاؤم، تضاعفت المساوئ حِدّةً وحجمًا في أحوال الوطن بغزوة( داعش) الظلامية في حزيران 2014، وسرعان ما توارد على لوح خاطري ورؤيتي، في هدأة الأنواء والضجيج والعتمة، مشاهد مُجَندلين من شهداء ومغدورين وجرحى في أرماقهم الأخيرة، كما تواردت على سمعي أنّات متصاعدة من حناجر المختطَفبن والمحترقين، وصراخ الأيتام، وعويل الأرامل، وغصص المعذّبين، والأصوات المخنوقة التي تحاول صدورها عن ثغور المغتصَبات من قِبل أجناد داعش، ومن أفواه ضحاياهم من جوع وعطش ومرض وذبح المئات في الأنحاء والزوايا والمخابئ والعراء.
وسطَ هذه الحالات النفسية، كيف يتسنّى للكاتب والمفكّر والأديب أن يبدع في مجالي الفكر، ورحاب الخيال لإبداع صِيًغ الجمال، ورسم الروائع، وتجسيم الفضائل؛ وكيف يستطيع أن يدعو للتحابب والخير والسلام؟! وكيف يهزج الشاعر إزاء مأساة أو مجزرة، ويَطرَب المنشد بقصد تسلية الحزانى والمضنكين والمنكوبين والمضطهدين في ميادين الحياة ؟! وكيف يُتاح للعازف في ربوع نينوى وكردستان في آذار ونيسان هذا العام، والحال فيهما هذه الحال من مساوئ وضراوة واحزان وأوجاع وخراب وحريق وفواجع، تقطّع النياط أنباؤها ومشاهدها، وتستدرّ العبرات؟! حتمًا كلّ هؤلاء المبدعين والمُنشِئين لا تؤاتيهم تلك الحالات المأساوية أن يُبدعوا ويُنشِئوا إلا إذا خلت مشاعرهم من تبريح ومرارة وتعاطف، فهؤلاء ضِمن جمهرة اللامبالين بغير أهوائهم وملاهيهم! فهم ـ يا لَتفاهَتِهم ـ لا يملكون المشاعر الإنسانية والوطنية، وينطبق عليهم بيت شاعر:


تَبًا لِمن  يُمسي  ويُصبحُ  لاهيًا      ومَرامُهُ  المأكولُ  والمشروبُ   

كما ينطبق عليهم مضمون بيت المتنبّي:

في الناسِ أمثلةٌ تدورُ حياتُهاكمماتِها    ومماتُها  كحياتِها 
مع كل هذا المد من الطوفان المهلك والمبكي، ذُهِلتُ أيّ ذهول إذ بدا لي كثيرون هنا وهناك وهنالك في كردستان والوسط والجنوب من أرض الوطن، وكأنهم بعيدون تمامًا عن هذه المآسي والآثام التي ُترتكب على مسرح الحياة المشهودة الآن ومنذ نيسان 2003 وحزيران 2014. فتساءلتُ في صمتي:هل الرقص لائق في المجازر والمآتم؟ هل الإحتراب والإقتتال والسلب والنهب والخطف والحرق والتهديد والوعيد وسطَ المِحَن والعواصف الهوجاء والأحداث الجسام من سمات التحضّر والتعايش والرشاد والإخلاص لله والوطن؟ ماذا يروم كتيرون ضمن شعب هذا الوطن المنكوب من خلال تكالبهم وتنافرهم وأحقادهم وخياناتهم بأشكال عديدة، وإفسادهم وانتماءاتهم إلى من ينوون امتصاصَ دمائِهم، واستعباَدَهُم ومَحقَهُم تاريخا ووجودًا؟!
ألا يكتفي هؤلاء الكثيرون بما هم فيه من تخلّفٍ شنيع، وتصارعٍ شائن، وتعادٍ وتنابز، ومسارهِم نحو المجهول، ودنوّهِم من شفير الهاوية، ليكونوا أقوى سبب لعرقلة تحسّن الأوضاع، بدلاً من أن يقتدوا بآخرين سبقوهم نحو الإرتقاء والصلاح  والفلاح حين نبذوا المساوئ، ورَكنوا إلى التآخي والتعايش المثمر المزدهر؟! فكبف يتسنّى للفضلاء والأكارم والمفكّرين والكتّاب والأدباء والفنّانين أن يعيشوا عيشًا رضِيًا يرفعون فيه شأن الوطن بين الأمم الراقية المزدهرة في حين هذه النخبة الجادّة الغيورة المنتِجة تعيش وسطَ شعبٍ تَعِجّ فيه هذه الكثرة الفوضوية المربِكة المؤذِية للمجموع وصالحِه العام بسبب حِدّة التناحر والإقلاق واستزراع الفتن العمياء؟!
قال شاعر مؤمن:
يا صديقي، إن مضى الوقتُ نزاعًا وحروبا
واستمرّ الحالُ  مثل الأمسِ  صعبًا  وعصيبا
فادخلِ المخدَعَ واركع واسكبِ النفسَ  سكيبا
قُل يا ربُّ: ضاقت،  فافتحِ  البابَ   الرحيبا
وقال شوقي:
إلامَ  الخُلفُ    بينكُمُ    إلاما
وهذي الضجّةُ الكبرى علاما ؟
وفيمَ  يكيدُ   بعضُكُمُ   لبعضٍ
وتُبدونَ   العداوةَ  والخِصاما؟!

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

837 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع