الدكتور محمد عياش الكبيسي
فتاوى الأزمات
الجزء الثاني والاخير
كنت أتمنّى من علمائنا ومشايخنا أن يجنّبوا الدين مثل هذه المزالق، وأن يكتفوا بالدعوة إلى الإصلاح، وتذكير الناس بثوابت دينهم وعقيدتهم وأخلاقهم، وتمتين أواصر المحبّة بينهم، وأن ينكروا ما يتداوله بعض الناس على صفحاتهم من سباب وشتائم وتأجيج للفتنة، خاصة أننا في رمضان، وفي أجواء القرآن.
إنه لمن المعيب أن يكون التناقض في المواقف المدوّنة والمصوّرة، والتي يتناقلها الناس عن بعض علمائهم بهذه السرعة من مديح وإطراء إلى اتهام وتخوين وتحريض، وكأنه قد نزل عليهم الوحي!
إن هذه التناقضات والاختلافات التي تتلبّس بلبوس العلم والدين لا يقرأها الناس ببراءة، ولا بسذاجة، إنهم سيسيئون الظن، وإن أحسنوه، فسيقولون: إنكم معذورون لأنكم تواجهون ضغوطاً من حكوماتكم، وقد لا يكون الأمر كذلك، فالحكومات تعرف أن هذا يأتي بنتائج عكسيّة.
المقلق هنا أن تُضرب هيبة الفتوى الدينية نفسها في قلوب الناس، وتتزعزع الثقة بكل ما يسمعونه من خطب ومواعظ، آنذاك لا نستطيع أن نمسك الشباب إذا هرولوا خلف رايات أخرى ومنابر أخرى في كهوف الظلمة والتكفير والتطرّف، فيصدق فيهم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا»، وإن تجربة الشباب في العراق وسوريا نموذج صارخ لهؤلاء، حيث الفراغ الذي تركه العلماء بعجزهم عن التوافق على حل مقنع، وباضطرابهم وتناقضهم كان سبباً مباشراً في تورّط هؤلاء الشباب بمشاريع أهلكت الحرث والنسل ودمّرت البلاد والعباد.
وإذا لم يتجه الشباب ذات اليمين، فإن مزالق الشيطان تنتظرهم ذات الشمال، حيث الدعوات الإلحادية والنزعات الإباحية المدمّرة للعقول والأخلاق.
إنه ليس من الصحيح أن نضع أنفسنا في عنق الزجاجة إزاء كل أزمة تمر مهما كانت خطورتها، فإن عقيدة الأمة وأخلاقها وتماسكها أعظم عند الله، وفي ميزان الشرع والعقل من كل أزمة مهما بلغت.
ثم وفي الإطار المنهجي العلمي الدقيق أيجوز للعالم أن يفتي في مسألة لم يحصل عنده التصوّر الكامل والواضح عنها؟ أليس الحكم على الشيء فرع عن تصوّره؟ فمتى أتيحت لكم الفرصة لتجمعوا كل ما يتعلق بهذه الأزمة أو تلك؟ وما المصادر المعتمدة عندكم؟ أليس معيباً أن يكون مستند هذه الفتاوى والبيانات ما يُنشر على الشاشات، وما تلوكه الألسنة من الدعايات والإشاعات؟ ويا ليتهم يتابعون كل ما يُنشر، يجمعون ويحللون ويستنتجون، لا، إنهم حقيقة يتأثرون بآخر معلومة وآخر نشرة أخبار، وآخر حكاية، أو مقولة في مجلس. كنت أحدّث مجموعة من مشايخ أهل السنة في العراق عن قانون «تأمين عراق ما بعد الحرب» الذي أقرّه البرلمان التركي لحماية بغداد، وهو قانون معروف ومنشور، ثم أبطله بعضٌ من قادة أهل السنّة في ذلك الوقت، تفاجأ المشايخ وقال أحدهم: والله أول مرة نسمع بهذا القانون، نعم أول مرة يسمع، لكنه ربما كان جزءاً من الحملة المضادة له، وهو لا يدري!
من المؤسف أن نرى كثيراً من أهل العلم وطلابه وكثيراً من المتديّنين يتورّعون غاية الورع في المسائل الجزئية التي قد لا ينبني عليها ضرر، لكنه يجازف في المسائل التي قد تهدم دولاً، وتهجّر أمماً، وتحرق أرضاً، وتقطع رحماً، والله المستعان.
839 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع