خالد القشطيني
من جهالات الجاهلية
الأدب العربي حافل بالأمثال... لها أبوابها الواسعة في أدبياتنا، وبقدر ما فيها من سعة وشمولية، تجد فيها ما تعافه النفس؛ من ذلك هذا المثل القديم: «إن أخاك من آساك»، تسمعه فتعجب به، ثم تسمع حكايته وأبعاده فتقرف منه.
وهو قول يرجع إلى خزيم بن نوفل. قالوا: إن نعمان العبدي أشرف على الموت، فأحب أن ينصح أولاده الثلاثة؛ سعد وسعيد وساعدة. دعاهم إلى سماع وصيته واتباع مضمونها. خاطب أولا ابنه سعدا، وكان فارسا ومقاتلا يشار إليه بالبنان، فقال له: يا بني إن الصارم ينبو، والجواد يكبو، والأمر يعفو، فإذا شهدت حربا تستعر، وبطلها يخطر، وبحرها يزخر، فأقلل المكث والانتظار، فإن الفرار غير عار إذا لم تكن تطلب الثار، وإياك أن تكون صيد رماحها، ونطيح نطاحها.
هذه نصيحة أب لأولاده وهو على فراش الموت. ثم التفت إلى ابنه سعيد وكان جوادا معطاء، فقال له: يا بني لا يبخل الجواد، فابذل الطارف والتليد، وأقلل التلاح تذكر عند السماح، وابْلُ إخوانك فإن وفيَّهم قليل.
والتفت إلى ابنه ساعدة، وكان صاحب شراب وإخوان، فقال له: يا بني إن الشراب يفسد القلب، ويقلل الكسب، ويجد اللعب، فأبصر نديمك، واحم حريمك، وأعن غريمك، واعلم أن الظما القامح خير من الري الفاضح.
وكان أن توفي النعمان، فقال ابنه سعيد لآخذن بوصية أبي ولأبلون إخواني وثقاتي. وعمد إلى كبش فذبحه، ثم وضعه في ناحية من خبائه وغشاه ثوباً. ثم دعا أحد أصحابه وقال له: يا فلان، إن أخاك من وفّى لك بعهده، وحاطك برفده، ونصرك بوده... إني قتلت رجلا، وهو الذي تراه في الخباء، ولا بد من التعاون لنواريه.
فأجابه صاحبه فقال: يا لها من سوأة وقعت فيها، وأنا لست لك بصاحب في هذا. ثم تركه وخرج. ثم استدعى سعيد أحد أصحابه الآخرين، ولكنه تلقى منه الجواب نفسه. حتى جاء دور خزيم بن نوفل فراح يجربه بالطلب نفسه: أريد منك أن تعينني حتى أغيّبه. فقال له: أيسر خطب، هان ما فزعت فيه إلى أخيك.
وحدث أن كان بينهما غلام لسعيد. فساءل حزيم صاحبه قائلا: «هل اطلع أحد على هذا الأمر غير غلامك هذا؟ قال: لا. فاستل خزيم سيفه وهوى به فورا على الغلام وقطع رقبته وقال: ليس عبدٌ بأخ لك. فارتاع سعيد وفزع لقتل غلامه، وأخذ يلوم صاحبه على فعلته. فقال خزيم: «إن أخاك من آساك»، وسمعها القوم فأخذوها مثلا.
دخلت هذه الحكاية الجاهلية في التراث على اعتبارها مثلا يعتد به؛ مساعدة الغير على إخفاء جريمة وتجاهل القانون، ويعدّونها دليلا على النخوة وصدق الإخلاص والأخوة. طريقة فجة من الابن في امتحان الولاء. بئس هذا النوع من التراث.
869 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع